طوفان الأقصى.. ارتقاء في الإنسانية
منذ بداية "طوفان الأقصى" ونحن نرى الكثير من ممارسات العدو وتصريحاته التي يُجرّد من خلالها ابن غزة من صفاته الإنسانية. ليس هذا بالسلوك الجديد ولا المُستغرب، بل هو انعكاس لرؤية بدأ التأطير لها منذ نكبة 1948، إلّا أنَّها تجلت في "طوفان الأقصى" ليصبح لدى العدو الذريعة لإبادة من هم ليسوا سوى "حيوانات بشريّة" كما صرح وزير الأمن الإسرائيلي يؤآف غالانت. تأتي هذه الألفاظ في زمنٍ كثرت فيه جمعيات حماية حقوق الحيوان التي تُرصد الميزانيات الضخمة لرعايتها؛ هذا الزمن الذي تتباهى فيه الأدبيات الغربية باستخدام اللغة "الشاملة" inclusive و"الصحيحة سياسيًّا" politically correct لتجنب الانحياز ضدّ فئةٍ ما أو إيذائها واستبعادها.
لكنّ "طوفان الأقصى" جاء ليُزيح الستار عن ازدواجيّة المعايير العالمية، ويكشف قناع العدو الذي كان يُخبّئ وراءه همجيته وغيظه وفجوره، فانكشفت أكاذيبه كما لم تُكشف من قبل، واتضحت سَوءته لأحرار العالم على اختلاف ثقافاتهم وتنوّع انتماءاتهم ودياناتهم، ممن تربطهم، أو لا تربطهم، بغزة وفلسطين الأرض والدين والهوية. لكن هذا لم يكن ليقف رادعًا أمام عدوٍّ مغتاظٍ كاسر فقدَ سيطرته على ما يقول ويفعل على مرأى العالم أجمع، إلى الحد الذي دفع به لإعلانها صريحة أنّه يقاتل "حيوانات بشريّة"! لقد هجَّر العدو أهل غزة، ومنع عنهم مصادر الحياة، وأساء إليهم بأبشع الطرق، وابتكر أساليب قبيحة لاستباحة ممتلكاتهم وأجسادهم ومشاعرهم، بل إنسانيتهم.
حين يقوم طرف بتجريد الإنسانية عن شخص ما، هو يُجرّد بذلك الإنسانيّة عن ذاته بتصرّفه غير الإنساني
حين يقوم طرف بتجريد الإنسانية عن شخص ما، هو يُجرّد بذلك الإنسانيّة عن ذاته بتصرّفه غير الإنساني، فلا يستطيع أحدٌ، كائناً من كان، أن يُحافظ على صفاته الإنسانيّة في حين يسيء إلى إنسان آخر بوحشية، ولا يمكن أن نقتنع أنّ إنسانًا يطاوعه قلبه وعقله ليسرق كسرة الخبز من الأيادي الصغيرة المرتجفة، ويمنع قطرة الماء عن الحناجر الظمأى، ويحرم الرضيع من قليل الحليب الذي يُبقيه حيًّا، ويحرق سرير المستشفى تحت امرأة تضع حملها، ويقصف مركزاً بسيطاً بمن فيه من شباب متطوعين يقدمون ما أمكنهم من خدمات إسعافية لأبناء قريتهم النائية! لا يمكن أن نقتنع بأن من يقوم بهذا الإجرام إنسان مهما ساندت رؤيته جهاتٌ أو دعمت سلوكَه دول، لأن من يفعل كل ما بوسعه لإذلال إنسانٍ آخر لا يمكن أن يكون إنسانًا حقيقيًا. أضف إلى ذلك أنه يفعل ذلك بعلانيَةٍ وصراحةٍ دون أيّ تحفّظ، بل كثيرًا ما يتباهى بعض أفرداه بتلك الفعلة ويعرضها على وسائل التواصل الاجتماعي وكأنها تحفة من روائعه الإجرامية.
يضعنا هذا المشهد في صلب المعادلة التالية: هناك من يُجرًّد من إنسانيته بِفعل فاعلٍ، وهناك من يتصرف بلا إنسانية بكامل إرادة وعن سابق إصرار. وما رأيناه من الفلسطيني الذي أُجبر على المقاومة، من تعاطف مع الطرف الآخر وهو في حالة ضعفٍ، لهو قمةُ الإنسانية، مع أن هذا الطرف هو من سرق أرضه وقتل شعبه وشوّه حياته! وتجلّت إنسانيّة الفلسطيني في معاملته مع الأسرى، ولا سيما مع الفتيات والنساء والعجائز والمرضى. ففي قمة إساءة العدو الإسرائيلي للفلسطيني ووصمه إياه باللاإنسانية، وجدنا الأخير يتحلّى بتعاطف ونبل تجاه هذه الفئات الأكثر هشاشة من عدوه إلى درجة أننا نحن المشاهدين عن بُعد، وجدنا في هذا الإحسان مبالغة في بعض الأحيان.
ما رأيناه ونراه في طوفان الأقصى هو، ببساطةٍ، ماردٌ جبارٌ يسرق إنسانية شعب أعزل، مستعينًا بقوته وقوة العالم أجمع، بينما ينتفض الشعب الأعزل من ضعف عَتاده وقلّة سلاحه مستعينًا بقوّة إنسانيته التي خرقت كل البروباغاندات لتلامس قلوب الملايين وعقولهم حول العالم، فتألموا لألمهم، وبكوا لمُصابهم، وفهموا حقيقة السردية الكاذبة التي بدأت ببدء الاحتلال. هذه هي الإنسانية التي لن تحرر الغَزِّيّ فحسب، بل ستكون النموذج الذي نأخذ جميعنا عنه الدروس والعبر، لنتحرر نحن أيضًا ونرتقي بإنسانيتنا. وأما العدو الظالم المتغطرس فأبجديات الإنسانية عنده مفقودة، ولذا طريقه طويل نحو الارتقاء إلى رُتبة إنسان.