"طوفان الأقصى".. ومن "المنطق" ما خدع
على مرّ العصور، آمن أناس بقوة المادة في شتى مناحي الحياة، آمن آخرون بأنفسهم وتشبّثوا بها، لم يحيدوا عن حقهم رغم ضعف إمكاناتهم مقارنة بعدوهم. والمدهش، أنّهم سطّروا، وما زالوا، بطولات غير مسبوقة، وقدّموا أرواحهم قربانًا لنصرة قضيتهم، لم يحفلوا بمنطق الأشياء، ببساطة لأنّ المنطق ينقاد لهم ولا ينقادون له، ولغزة من الله العزّة.
لم يكن السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 غريبًا على أبناء فلسطين، حيث خرجت ثلّة من المغامرين لتكتب فصلًا جديدًا في تاريخ الإباء، خرج أبناء غزة ليرسموا ملامح خريطة طريقهم، خريطة شكّلوها بدمائهم ونضالهم، لم يفتّ في عضدهم أن هرول عدد من بني جلدتهم للتطبيع مع عدوهم، قالوها بلسان الحال والمقال "نقاتلهم على عطشٍ وجوعٍ/ وخذلان الأقاصي والأداني/ نقاتلهم وظلم بني أبينا/ نعانيه كأنّا لا نعاني"، سيان من نصرهم ومن خذلهم، فإنهم عقدوا العزم على استرداد حقهم المسلوب، مهما كلّفهم ذلك، وبأيّة وسيلة.
يقول أناس إنّ السلام كلّ السلام في التطبيع مع إسرائيل، يقول أبناء غزة إنّ السلام كلّ السلام في أن نستعيد حقنا المسلوب. يقول أناس إنّ المستقبل في مدّ أيدينا للإسرائيليين، يقول أبناء فلسطين إنّ المستقبل تصنعه أيدينا. يقول أناس إنكم تهدرون الفرص وتضيّعون الوقت، يقول أبناء العزّة في غزة إنّ السلام والمستقبل والحق يا ابن ديننا وعروبتنا "إن كنت تبكي عليه نحن نصنعه".
كشف "طوفان الأقصى" هشاشة الاحتلال وكذب البروباغندا التي تُوهم بتفوقه
ليس غريبًا أن تعلن واشنطن ولندن وبرلين وروما وباريس في بيان مشترك إدانة المقاومة، ليس جديدًا أن يصف البيان الدفاع عن الأرض والعرض بـ"الأفعال الإرهابية المروّعة"، يستصرخ المحتل جنوده من أنحاء أوروبا للوقوف في وجه أبناء غزة، غارات جوية تستهدف المدنيين، والعالم العربي يعيش حالة انفصام، شعوب تردّد سرًا وجهرًا "لو كنت من مازن لم تستبح إبلي"، وأنظمة لم تحرّك ساكنًا أو تنادي الطرفين بضبط النفس ونزع فتيل الأزمة، كلام من باب ذر الرماد في العيون، دفعًا للعتب، أما بخصوص الأرواح التي تُزهق، فإنّ لفلسطين ربًا يحميها!
يصف وزير دفاع الاحتلال الفلسطينيين بأنهم "حيوانات بشرية"، وجماعتنا "في كوكب تاني" بتعبير مدحت صالح، يقول البنتاغون "نعمل بأسرع ما يمكن لتوفير الذخائر التي طلبتها إسرائيل، واتصلنا بالصناعات الأميركية للحصول على شحنة سريعة لطلبات أخرى"، وإعلامنا الرسمي يهتم بصبغة شعر سلمى أبو ضيف!
وأنت تتابع ما يجري في الأراضي المحتلة، ربّما يضيق صدرك بشعارات حقوق الإنسان التي تلوكها الأنظمة الغربية، لكنّ شعورك تجاه الأنظمة العربية لن يكون مختلفًا "غثاءٌ كغثاء السيل"، لم تتخذ دولة عربية موقفًا واضحًا وقويًا لنصرة النساء والأطفال في غزة ممن "لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا".
يقول أناس إنّ السلام كلّ السلام في التطبيع مع إسرائيل، يقول أبناء غزة إنّ السلام كلّ السلام في أن نستعيد حقنا المسلوب
انخلع قلب المحتل في دقائق، كشف "طوفان الأقصى" هشاشة الاحتلال وكذب البروباغندا التي تُوهم بتفوقه، شاء ربك أن يأتي ذلك في اليوم الموالي لذكرى حرب السادس من أكتوبر 1973، حينها صدّر الاحتلال للعالم أنّ خط بارليف أقوى من أن يُقهر، لكن خراطيم المياه نسفته، واليوم تلاعب شباب المقاومة بكلّ ما يمتّ للاحتلال بصلة، استخباراتيًا، عسكريًا، أمنيًا، نفسيًا، وانتصرت المقاومة انتصارًا معنويًا لن ينساه الغاصبون ما سجع الحمام.
غسل "طوفان الأقصى" ما علق بالنفوس من تطامن رسمي وشعبي مع النغمة الجديدة، نغمة التطبيع مع الغاصب المحتل، وأعاد "الطوفان" بريقًا من الأمل كاد يخبو أو يُخنق عمدًا، فبعد "الطوفان" حياة لا كسابقتها، حياة عزّة وكرامة ونصر معنوي تاقت له القلوب واشرأبت له الأعناق طويلًا.
"لا تصالح ولو منحوك الذهب"، ليست مقولة يُتغنّى بها، إنها قناعة يؤمن بها هؤلاء الأبطال على أرض العزة، إيمان راسخ لا يزعزعه طيران الاحتلال أو تكالب حلفائه، يقين لا يتحوّل بضعف الموقف الرسمي المخجل للحكومات العربية، لسان مقال أهل العزة والصمود وحالهم (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ).
"طوفان الأقصى" له ما بعده، برغم الخسائر في الأرواح، برغم الآلام والجراح، غير أنّ أبناء الشعب الفلسطيني الأبي لم يعهدوا في أنفسهم، ولم نعهد فيهم قبول الضيم والخنوع للمحتل، مهما كلّفهم ذلك، مهما تنكّر لهم الساسة والقادة من شرق العالم وغربه، فإنهم (قوم إِذا الشَّرّ أبدى ناجذيه لَهُم/ طاروا إِلَيْهِ زرافات ووحدانا)، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتيهم أمر الله، وهم كذلك.
إن قالت المغنية هدى عمّار "يا روايح الزمن الجميل هفهفي/ وخدينا للماضي وسحره الخفي"؛ فإن "طوفان الأقصى" فعلها مرتين، الأولى بتلك المفاجأة التي أبهجت القلوب وأحيت من الآمال ما كاد يقضي نحبه، والثانية بعودة الروح إلى الشهيد سليمان خاطر في الإسكندرية، وإن غدًا لناظره قريب.