عالَم ليس لنا
عبد الحفيظ العمري
عالمنا اليوم من صنيعة الغرب!
قد تكون هذه الجملة غريبة للقارئ الشرقي، ويرى فيها نوعاً من الميل للمركزية الأوروبية، لكن الحقيقة التي أظهرتها الأحداث الأخيرة، وخصوصاً معركة غزة، واقع هذه الجملة.
لو فتشتم عالم اليوم، لوجدتم أن كل قيَمِه وتوجهاته جرت صناعتها هناك في الغرب، وأعني بالغرب: الاتحاد الأوروبي وبريطانيا مع الولايات المتحدة الأميركية، وكأني أتحدث عن حلف الناتو تماماً..
فهم أصحاب التكنولوجيا صناعةً وتصديراً واحتكاراً، والمستحوذون على القرارات الدولية؛ ثلاثة من أعضاء الفيتو في مجلس الأمن للغرب، هذا باستبعاد روسيا من الغرب بعد حرب أوكرانيا عام 2022م التي وسّعت الهوة بين روسيا والغرب، عندما دعم هذا الأخير، مجتمعاً، أوكرانيا في حربها التي لا يزال أوراها مشتعلاً.
لقد سيطر الغرب على مجريات الأمور في هذا الكوكب منذ نهضته الأوروبية في مطلع القرن الرابع عشر الميلادي، ثم تتابعت عصوره، من عصر العقل إلى عصر الأنوار والثورة الصناعية والرومانتيكية والحداثة وما تلاها حتى زمننا المعاصر.
طبعاً، كل هذه التسميات هي من إنتاجه، ولا دخل للشرق في ذلك!
لو قرأنا التاريخ، لأخبرنا أن الغرب، الذي غادر ظلام القرون الوسطى مع بدايات القرن الخامس عشر الميلادي، لم يغادرها إلا نتيجة أفكار غيّرت نظرته إلى العالم، استقاها من الإرث اليوناني القديم أو من الشرق الإسلامي، ثم تبلورت ليصنع فلسفته وأفكاره التي أنتجها وتمثلها، ولا يزال يفعل ذلك حتى اللحظة؛ فالغرب تحكمه الميكافيلية؛ حيث الغاية تبرر الوسيلة، والداروينية؛ حيث البقاء للأصلح؛ والنشتوية، حيث البقاء للأقوى، ودينه الحديث هو البراجماتية، حيث معيار العمل هو مدى منفعته فقط، ولا ننسى الليبرالية، حيث الحرية مفرطة، تصل إلى درجة التضحية بأي مبادئ أخرى لأجلها!
لقد بدأت سيطرة الغرب عسكرياً، متمثلةً في مستعمراته التي اكتسحت قارات العالم، ابتداءً من البرتغال وإسبانيا في القرن الخامس عشر الميلادي، وإنكلترا وفرنسا في القرن السادس عشر الميلادي وحتى العشرين، مع مزاحمة هامشية لإيطاليا، ودول أوروبية أخرى كهولندا وبلجيكا، ولا ننسى الولايات المتحدة الأميركية، التي بدأت بالتوسع منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، ولا تزال مهيمنة حتى اليوم بقواعدها العسكرية الموجودة في أكثر بقاع العالم.
لو قرأنا التاريخ، لأخبرنا أن الغرب الذي غادر ظلام القرون الوسطى مع بدايات القرن الخامس عشر الميلادي، لم يغادرها إلا نتيجة أفكار غيّرت نظرته للعالم
ولأن الغرب يتحكم بكل مقدرات الإعلام ومنابر صناعة الأفكار كالجامعات (تنشر مجلة "تايمز" للتعليم العالي اللندنية سنوياً تصنيف أفضل الجامعات العالمية؛ حيث تتصدر الجامعات الأميركية والبريطانية أفضل عشر جامعات في العالم) ومراكز الدراسات، فقد صدّر، إن لم أقل: فَرَضَ، أفكاره على العالم؛ فالعلمانية والعولمة والحداثة وغيرها هي الأفكار التي يدور العالم اليوم حول فلكها.
إنه عالمهم الذي صبغوه بأفكارهم، ورؤاهم، وهذا نتاج طبيعي لهذا الجهد الطويل الذي بذله الغرب منذ صيحة مارتن لوثر من أجل إصلاح الكنيسة، وما نتج عنها من متغيرات كثيرة، لعل أهمها كسر القيود التي كبّلت العقل الأوروبي أو الغربي، فانطلق من عقاله واستطاع خلال القرون اللاحقة من ترويض قوانين الطبيعة، واستغلالها في صناعة حضارتهم، بحسب رؤيتهم.
أين كنا آنذاك؟
إن كل هذا حدث أمام أعين عالمنا العربي (الكسير)، الذي كان غارقاً في صراعاته السياسية، والتي تلفّعت بأثواب الدين تارةً، والعشائرية (والتي تطورت بعد ذلك إلى القومية) تارةً أخرى، والتقدمية تارةً ثالثة، وهدف الجميع الوصول إلى كرسي الحكم، والتحكم في الثروات ورقاب الخصوم..
والمشكلة أننا، وبعد مرور هذه القرون، لا نزال نراوح مكاننا في نفس "الوهدة" التي انحدرنا إليها منذ انتهاء دولة بني العباس!
والجديد في ذلك أن صراعاتنا ارتدت لبوس الحضارة الغربية، المادية والثقافية، فتمثلناها زيفاً وتقليداً أجوفاً، يفسّر ذلك عالم الاجتماع ابن خلدون في مقدمته: "إن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب، في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده، والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال فيمنْ غلبها وانقادت إليه".
إنه عالمهم، ونحن مجرد "كائنات" تتحرك في هذا العالم، لا دور لنا يُذكر إلا التغني بالأمجاد التليدة التي أكل الدهر عليها وشرب، فلا نستغرب، بعد كل هذا، مِن تآزر أنظمة الغرب السياسية مع ربيبتهم (إسرائيل)؛ فهم يعتبرونها نموذج الحضارة الغربية الوحيد الموجود في منطقتنا الجغرافية!
فما يجري ليس مجرد معركة عسكرية، إنه "صراع للحضارات" كما سماه صامويل هنتنغتون.