عقد نكاح داخل الميكروباص
(الجزء السابع من حكاية المعلم أبو أحمد ورحلته إلى حماه)
أكد لي معلم المدرسة "أبو أحمد"، خلال مكالماتنا المتتالية عبر الواتس أب، أنه كان، قبل هذه الأيام العصيبة التي أعقبت ثورة 2011، معروفاً في مدينة إدلب بلقب "أبو الهمايم"، وكان يقول لأصدقائه ممازحاً على طريقة الأدالبة القدامى: علي الطلاق بالتلاتة، وبعِرْض أختي، مثلي أنا لم تلد النسوان، ولا قَمَّطتْ الدايات، كيفما وقعت أنزل على قدميَّ واقفاً، وأنفذ من الزَرَد. (هذه الصفات والكنايات تدل على القوة والتفرد وحسن التصرف).
وحكى لي أنه، حين مات خاله الحاج فاتح، ذهب ليُحضر مغسل الأموات "الشيخ أبو ترابة"، وكان متوسط أجرة تغسيل الميت، في تلك الأيام، 200 ليرة سورية، وبمجرد ما رآني أبو ترابة راح يتظاهر بأنه مشغول، ومدعو لتغسيل ميت في قرية حفسرجة، وآخر في "عين شيب"، ولا يدري إن كان سيجد وقتاً مستقطعاً لتغسيل خالي.. هذه الحركات والخزعبلات (والخَيلات) – يا خاي أبو مرداس - لا تمشي علي، لذا أمسكتُ بياقة قميصه، وقلت له: فتح عينك يا أبو ترابة مثل الطبق، أنا لم أت إليك لأن مغسلي الأموات في إدلب قليلون، ولكنني جئت لأنك جارنا، وأردت أن أنفعك بمئتي ليرة..
ضحك أبو تراب باستهزاء وقال لي: 200 ليرة؟ هذا السعر صار من الماضي يا أبو أحمد.
وراح يشكي ويبكي، ويحكي عن ارتفاع سعر البندورة، والبقدونس، وأنه يوم تزوج اشترى غرام الذهب بسبع ليرات، ولكن اليوم الغرام بتلات آلاف.. وأضاف أن زوجته حامل بجنينين، وهو من الآن يحسب من أين سيؤمن لهما الحليب والحفوضات والسيريلاك، مع أنه مفلس على الحديدة، والشغل قليل، لأن الناس في إدلب، ما شاء الله كان، ما عادوا يموتون كثيراً كما في السابق، اليوم الرجل الإدلبي يداري صحته، والرجال يعملون ريجيم، ويلعبون رياضة، وإذا سخن الرجل أو برد أو عطس، يركض إلى الطبيب ويتعاين ثم يأتي بزنبيل أدوية ويشرب منها حتى يشفى..
قلت له: أعطني من الآخر يا خاي.. كم تريد لتغسيل خالي الحاج فاتح؟
فقال إنه لا يمكن أن يمد يده ويسكب طاسة عليه إذا لم يأخذ خمسمئة ليرة سورية مقدماً، وبعد التغسيل إذا تكرم عليه أهل الميت ببعض العطايا، يكون ذلك خيراً..
حك جولاماصا رأسه وقال: طيب. ولكن ماذا بخصوص الإثبات؟ أنا لا أريد أن أبدو أمام الركاب بمظهر قاطع الطريق
عندما وصل أبو أحمد في حديثه إلى هنا قلت له: "هذه أول مرة أعرف أن للبندورة والبقدونس وسعر غرام الذهب علاقة بتغسيل الأموات".
قال لي: نعم. ولذلك قلت له: الله يقويك يا حجي، إذا رحت على حفسرجة، أو على عين شيب، سلم لي على الناس الطيبين هناك.
قلت لأبو أحمد: أكيد أحضرت الشيخ عثمان أو الحاج أبو سلمو.
قال لي: يا سيدي ذهبت إليهما، وفوجئت بأنهما يتحدثان مثل أبو ترابة، لذلك ذهبت إلى دارنا، ارتديت جلابيتي العتيقة، وتابعت طريقي إلى دار خالي، رحمه الله، وغسلته.
هتفت: الله أكبر. أصبحتَ مغسل أموات؟
قال: نعم. ولكن على نطاق محدود. فبعدما غسلت خالي لم أكن أغسل سوى الأقارب، أو الأصحاب، ودون مقابل طبعاً. ومرة علقنا نفس العلقة، ولكن ليس في مجال الأموات. كان ابن عم زوجتي، سامر، وهو شاب فقير، يريد أن يتزوج، ولم يكن يمتلك مالاً لإحضار كاتب المحكمة إلى البيت لعقد القران. فعقدت له أنا. وهذا العمل، بالمناسبة، بسيط جداً، تقرأ بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تحض على الزواج والعفة، وتسرد بعض الأدعية، وتطلب من والد الفتاة أن يضع يده في يد العريس، ويقول له: زوجتُكَ وأنكحتُكَ ابنتي البكرَ البالغ، لنفسك، وعلى تقوى الله ورسوله، وعلى مهر مؤجل وقدره.. والعريس يرد، وأنا قبلت الزواج من ابنتك البكر البالغ لنفسي وعلى تقوى الله ورسوله وعلى ما ذكرت من المهرين.. ويقرأ الجميع الفاتحة، ويأكلون الراحة والنوكا والشكولاتة.. المهم، أستاذ، هل تعرف لماذا حكيت لك كل هذه الحكايات؟
قلت: أولاً، أنا أشكرك لأنك تحكي لي حكايات تعيدني بالذاكرة إلى بلدي التي لا أجرؤ الآن على مجرد التفكير بزيارتها، بسبب سيطرة تنظيم القاعدة عليها.. وثانياً، لا أعرف لماذا حكيت هاتين الحكايتين لي، فقد كنا، قبل هذا، نحكي عن الحاجز الذي أقامه المجاهد التائب جولاماصا بالقرب من معمل الكونسروة على طريق حارم، وقد أخبرتني أنه جولاماصا أوقف الميكروباص الذي كنتم تسافرون فيه من إدلب إلى حماه، وافتعل مشكلة مع رجل وامرأته جالسين متجاورين على أحد المقاعد، وطلب من الرجل إثباتاً بأن هذه المرأة (الحرمة) زوجته.
قال أبو أحمد: نعم. وأكثر من نصف ركاب الميكروباص كانوا يعرفون الرجل الجالس بجوار المرأة، إنه "أبو الطاهر"، عنده دكان لبيع الخضار والفواكه في سوق الهال، وبعضهم يعرفون السيدة أم الطاهر التي كانت بجواره، وحلفوا أيماناً لجولاماصا بأنها زوجته.
شعر جولاماصا بأنه حوصر، فابتسم وقال بلطف: والنعم من عمي أبو الطاهر، ومن أختنا أم الطاهر، وأنا كمان أعرفه، وفي أيام الجهل، الله يعفي عنا، كنا نأتي إلى سوق الهال في الليل، ونسرق بعض حبات البرتقال والتفاح والموز من تحت الجادر الذي يغطي فيه الصناديق أمام دكانه.. ولكن من يدري؟ قد يكون خلال هذه السنين قد طلق أختنا أم الطاهر فأصبحت محرمة عليه.
ويبدو أنه شعر بضعف في موقفه، فمد يده وحرك جهاز تلقيم البارودة وقال: لا أريد الآن أن أستمر في الأخذ والرد. إما أن يقدم أبو الطاهر إثباتاً أن هذه المرأة زوجته بشرع الله، أو..
قلت له: لحظة. أنا عندي حل.
وهمست لأبو الطاهر طالباً منه أن يعطيني خمسة آلاف ليرة. أخرج المبلغ ودسه في يدي. قلت لجولاماصا: تعال معي عين عمك. أريد أن أحكي معك كلمتين على انفراد.
ومشيت معه جانباً، ورحت أحكي له عن التكاليف العالية للجهاد، وأن رئيس المجموعة الجهادية مثله لا بد أن يكون مسؤولاً عن رواتب عناصره ومعيشتهم.. وقدمت له خمسة الآلاف ليرة التي أخذتها من أبو الطاهر.
حك جولاماصا رأسه وقال: طيب. ولكن ماذا بخصوص الإثبات؟ أنا لا أريد أن أبدو أمام الركاب بمظهر قاطع الطريق.
قلت له: الشغلة بسيطة، أنا الآن أحلها.
وعندها عدنا إلى الميكرو، وطلبت من أحد الركاب أن يكون وكيلاً عن أم الطاهر.. وأن يضع يده في يد أبو الطاهر، وخلال خمس دقائق عقدت لهما قراناً شرعياً.