عملية احتيال يقودها مزلقان
(لا يوجد إنسان فاشل بشكل مطلق). بهذه العبارة افتتح الأستاذ كمال سهرة الإمتاع والمؤانسة. وضرب مثلاً بالفتى الأهبل سلمون الذي انتقل من العمل في المبقرة إلى العمل في مكتب النزاهة العقاري الذي يمتلكه أبو رستم وأبو سلمان.
وقال: أول شي أنا بدي أعتذر عما بدر عني سابقاً بحق الأخ سلمون، وخاصةً لما قلت عنه أهبل ومجنون وهضيلة ومشرد إلى آخره. بصراحة؟ الوصف الحقيقي لسلمون إنه ضايع، أو مضيع، وبينطبق عليه قول الشاعر العَرْجي وقت كان في السجن، بعدما تغزل بامرأة من الأشراف:
أضاعوني وأيَّ فتًى أضاعوا
ليوم كريهةٍ وسدادِ ثـَغْـرِ
وصبرٍ عند معترَك المنـايا
وقد شُرِعتْ أسنَّتُها بنَحري
أجرِّرُ في الجوامع كـل يومٍ
فيا لله مَظْلَمَتي وصـبـري
كأنّي لم أكن فيهم وسيطاً
ولم تكُ نسبتي في آل عمرو
ضحك أبو زاهر وقال: أنا شايف كَبَّرته كتير لسلمون. ساويته بطل خائض في معترك الحياة، والمنايا تغرز أسنتها في نحره.. مع إنه سلمون شخصياً بيقول عن نفسه (أنا شوفور صينية)، يعني آذن في مكتب عقاري!
كمال: نعم، لكن سلمون بيقول هالشي من باب التواضع. أنا قصدت إنه ما حدا عم يعرف يستفيد من مهارات سلمون العقلية وإمكاناته الإبداعية، لما اشتغل مساعد للدكتور الناس عملوه مسخرة، وصاروا يألفوا عليه قصص وحكايات وسوالف على إنه الدكتور بيفتح بطون المرضانين وبيعمل عمليات جراحية وهوي (سلمون) بيبتلي بإعادة المصارين متلما كانت وبخياطة الجروح! ولولا إنه اشتغل في الطاحون وتعلم خياطة الكياس كان تبهدل.. ولما كان تلميذ نجيب في المدرسة ما بقي معلم مدرسة إلا قدم استقالته وقال (إما أنا أو سلمون في هالمدرسة!)، وعلى فكرة هالمواقف كلها ناجمة عن الغيرة والحسد، لأن الأساتذة ما عندهم أولاد بمستوى سلمون! وآخر شي راح ع المبقرة حتى يشتغل ويوفر مصاري يزوج فيها والده، راحوا ناس عواذل حرضوا عليه التيران وخلوهن يباشروا فيه نَطْح وتعجيق.. لكن لما دخل في عالم السمسرة العقارية بدأت إمكاناتُه تتفتح مثلما تتفتح الأزهار في أول الربيع، على قولة البحتري: ونبه النيروزُ في غسق الدجى أوائلَ وردٍ كُنَّ بالأمسِ نُوَّما
أبو محمد: عطينا من الآخر يا أستاذ كمال، أيش عمل سلمون في مكتب النزاهة حتى إنته انبسطت منه وصرت تمدحه كل هالقد؟
قال مزلقان: من يومين أجا لهون الأستاذ "دياب بري" وقال إنه عنده دار تلاتة غرف عارضها على كل المكاتب العقارية في إدلب وما حدا عم يشتريها. كان عارضها بأربعمية ألف. هلق بميتين ألف مستعد يبيعها
كمال: اللي بدي أقوله إنه سلمون انحط في مكانه الطبيعي، واكتسب اسم كتير متميز، اللي هوي (الرفيق مَزْلَقَان)، وفي أول اختبار لذكاؤه تألق. وإكراماً إلك يا عمي أبو محمد راح إحكي لك حكايته مع الشقة اللي باعها مكتب النزاهة بتوجيه من مزلقان.
أبو محمد: يا سلام. هلق جينا. تفضل.
كمال: في يوم من الأيام كان الرفيق مزلقان عم يمسح البوتاغاز في المكتب العقاري، سمع قرقعة، مد راسه، شاف زبون طويل القامة داخل ع المكتب وعم يصيح: مين هون يا شباب؟ ترك من إيده، وطلع يستقبل الزبون. وأول شي قال له: أهلاً وسهلاً، محسوبك الرفيق مزلقان، بشتغل شوفور صينية. إسمك بالخير؟
الزبون: أنا أبو خيرات. أصحاب المكتب موجودين؟
مزلقان: أبو خيرات إسم على مسمى. أهلاً وسهلاً. لا والله صحاب المكتب مو هون. بس هيك أحسن.
أبو خيرات (مندهشاً): ليش أحسن؟
مزلقان: حتى نقعد أنا وإنته مع بعضنا على رواق، وأعرف أيش طلبك، وأعطيك فكرة عن الشغل، وبإذن الله ما بتكون غير مبسوط.
أبو خيرات: أنا بدي أشتري دار تلات غرف، منشان إفرشها وأزوج فيها إبني خيرات.
مزلقان: لازم تزوجه. يا سلام. هادا هوي الشغل المظبوط. اللي بيترك إبنه بلا زواج بيخسره، بيصير الشاب بيدور في الشوارع، وبيمشي مع أولاد الأزقة، وبالأخير بيضيع. ليك، أنا أبوي حالف يمين بس يصير عمري سبطعش سنة بده يزوجني. المرا اللي هوي بده ياخدها أم حمودة، عندا بنت كويسة، أنا حاطط عيني عليها. أبوي بياخد الأم وأنا باخد البنت. خيو، ما علينا، قلت لي بدك بيت تلات غرف. عليك نور. هلق بس يجوا صحاب المكتب إنته بتعرض عليهم طلبك، وأكيد راح يعرضوا عليك دار وتنتين وتلاتة وأربعة.. لكن الدار اللي بتناسبك موجودة عندهم وما راح يعرضوها عليك. بتعرف ليش؟
أبو خيرات (مستغرباً): لا والله ما بعرف. ليش؟
مزلقان: خدها قاعدة عمي أبو خيرات، البضاعة التعبانة هيي اللي بتنعرض للبيع، البضاعة الكويسة اللي إلها قيمة بيخلوها على طرف. ليش؟ لأن بكل وقت بتنباع، وبسرعة، وبربح كويس. هلق بدي منك تعمل متل ما بقلك. أيش ما عرضوا عليك دور، قول (ما عجبتني)، لوقت أنا بجيب لك كاس الشاي، واترك الباقي علي.
أبو زاهر (ضاحكاً): أشو هاي؟ مقالب غوار؟
كمال: على فكرة المرحوم نهاد قلعي كان يكتب مقالب غوار بطريقة كتير ظريفة، وكان يلعب ع الحد الفاصل بين الكوميديا والتهريج. بس هون الموضوع مختلف، لأن هادا الرجل الطويل اللي إسمه "أبو خيرات" انسجم مع خطة الرفيق مزلقان ونفذها بحذافيرها، ولما وصلوا أصحاب المكتب وصاروا يتناقشوا بموضوع الدار، نفذ اللي قال له ياه مزلقان بحذافيره، وعلى فكرة مزلقان ما كان متفق مع أبو رستم وأبو سلمان حول الموضوع. لذلك، لما أبو خيرات طلب منهم يفرجوه الدار اللي مخباية اندهشوا، وفي هاي اللحظة تدخل سلمون، وغمزه لأبو خيرات غمزة تواطؤ، وطلب منه يغادر المكتب. أبو خيرات ألقى نظرة على ساعة إيده وقال: أخي، أنا هلق عندي موعد. بكرة المسا بجي لعندكم ومنحكي في الموضوع.
وبعدما راح أبو خيرات قام أبو رستم وسكر باب المكتب وقال لمزلقان: ولاك سرسري، إنته أشو عم تلوص من ورانا؟
قال مزلقان: من يومين أجا لهون الأستاذ "دياب بري" وقال إنه عنده دار تلاتة غرف عارضها على كل المكاتب العقارية في إدلب وما حدا عم يشتريها. كان عارضها بأربعمية ألف. هلق بميتين ألف مستعد يبيعها. صح؟
قال أبو سلمان: صح.
مزلقان: نحن بكرة منشتريها من دياب بري بميتين ألف، ومنبيعها لأبو خيرات بأربعمية، ومنقاسم الربح بيناتنا.
أبو سلمان: ومين قال لك بيشتريها بأربعمية؟
مزلقان: أنا رتبت الأمور معه بطريقتي. روحوا اشتروا الدار اليوم، وبكرة بس يجي أبو خيرات منحلها.
أنهى كمال الحكاية على الشكل التالي: وبالفعل، اشترى أبو خيرات الدار بأربعمية ألف. وتبين أنه فيها مشكلة مزمنة، وهيي عدم تصريف المي في الشتاء. وكانوا بوقتها في الصيف. ولما أجا الشتي راح أبو خيرات ع المكاتب العقارية، وعرض الدار للبيع بنص حقها. وهيك بيكون مزلقان دخل في عالم النصب والاحتيال من بابه العريض.