عن أعياد الربيع العربي
برغم السَّأَم من تكرار الحديث عنها، يظل "كشف حساب الثورة" في ذكراها السنوية، يُطل برأسه من جديد، مُعيداً ذات الإشكاليات والتساؤلات.
تساؤلات من قبيل:
هل كانت الثورة ضرورة؟ أم كان يمكن تفاديها بالضغط السلمي على النظام؟
هل هي ثورة فعلاً أم مؤامرة خارجية؟
لماذا هذا الفشل المريع طوال 12 سنة، بعد أن كنا يداً واحدة إبان الثورة؟
هل حجم خطايا النظام السياسي، كان يستحق الدخول في هذه المغامرة المكلفة؟
النقاط الآتية محاولة مبسّطة للإجابة عن هذه التساؤلات، من وجهة نظر لا تزعم إطلاقاً الحياد ولا الموضوعية.
حتمية الثورات
بعيداً عن الغيبيات وتدخل الأقدار، انتهاء أي منتج أو صنيعة بشرية، هو من المعلوم من الحياة بالضرورة. الأنظمة السياسية ليست استثناءً من ذلك. في حالتنا العربية، كانت الأنظمة تعاني من ترهّل كبير، وانسحاب مخزٍ من أداء أبسط أدوارها الخدمية، وتحوّلها لمحض سلطة باطشة، قائمة على العنف العاري وحده. شرعيتها ماتت وتفسّخت، بما فيها الشرعية الثورية، وشماعة تحرير فلسطين. الثورة كانت محاولة إعلان دفن لهذه السلطويات الشائخة.
الذي حدث في 2011، ليس بدعة في العالم. تحوّلات دول أميركا الجنوبية وشرق أوروبا وجنوب شرق آسيا في عقدي الثمانينيات والتسعينيات، تعبّر عن صيرورات الانتقال هذه، لكنّ مشكلتنا أننا لم نكن نعرف من العالم إلا أميركا وإسرائيل.
وهم الإصلاح
يكاد يكون من المستحيل إصلاح النظام الاستبدادي. أولاً، لأنه لا يوجد نظام يُقدم على الإصلاح من تلقاء نفسه. فلا بد من وجود قوى سياسية وثقافية، منظّمة وشجاعة، لديها إرادة قوية في التغيير.
ثانياً، قلت "يكاد" لأن نُسَخ الاستبداد وميكانيزماته تتعدد، من ديكتاتورية الفرد إلى العائلة، ومن الطائفة والقبيلة إلى الحزب والجيش.
فقط في حالة قرار نظام الحكم تسليم مقاليد السلطة وفق تفاهمات معينة، تُدخِل البلاد في حقبة تاريخية جديدة، يحدث الإصلاح والانتقال التدريجي نحو الحكم الرشيد. عدا ذلك، فعمل الديكتاتورية الطبيعي يكون على توطيد السلطة فحسب.
مع الديكتاتورية الرثّة، التي غلبت على الدولة العربية الحديثة، الإصلاح كان يعني شيئاً واحداً فقط: النهاية.
بحكم طبيعته المافياوية، أي مجازفة بإجراء ولو إصلاحاً صغيراً، لن يعني للنظام إلا تجهيز كفنه بيديه. ثم ما نوع الإصلاح المطلوب، في بلدان تُحكم بعائلات وطوائف وقبائل، تحتكر الجيش وأجهزة الأمن، ومقدرات الدولة الاقتصادية؟ نحن أمام هيكلية رثّة لنموذج دول لم تستطع مجرد إنشاء مؤسسات بيروقراطية وقانونية، ولو صُوَرياً.
لذلك، فالثورة على نظام مافياوي متكلّس لن تؤدي إلا إلى حرب أهلية مدمّرة، إما أن يسقط النظام على أثرها مثلما حدث في ليبيا، أو ينتصر فيها ولو بسحق نصف الشعب تقريباً، مثلما يحدث في سورية الأسد، ومن قبلها عراق صدام. نحن أمام "سلطة" عارية من أي ضوابط، وليس محض "دولة" شمولية، والفرق بينهما كبير.
التدخل الخارجي
هناك حقيقة يُفترض أنها بَديهية، لكن لا بأس من التذكير بها بين الحين والآخر. نحن لا نعيش وحدنا على الكوكب. أعضاء الأمم المتحدة 193 دولة، وتقريباً كلها معنية بما يحدث لبعضها.
لكن لو أدركنا تماماً الدواعي الداخلية، المتعلقة بطبيعة الوضع القائم، عندها سنكفّ عن تضخيم "الدور الخارجي"، الذي لا يعدو كونه استغلالاً أو محاولة توجيه لحدث يجري بالفعل. بالطبع، هذا لا يعني التقليل من شأنه، لكن أيضاً لن يؤدي التضخيم إلا إلى الخرافات المؤامراتية المعروفة.
مسار الثورة
بعكس الشائع في ثقافتنا التعبوية، الثورة مفهوم مخيف ومرعب، وليست حدثاً يدعو للفخر والاعتزاز، لذلك فهي لم توجد في التاريخ القريب للدول التي ترسّخت فيها قواعد العقد الاجتماعي، مُبقية على المظاهرات والإضرابات والاحتجاجات الفئوية، كأقصى مظهر من مظاهر "السخط" المشروع.
لعقود، ظل العقلاء الشجعان، في نضالاتهم السياسية والفكرية، يحذّرون من مجيء "يوم الدينونة" هذا إن لم نتدارك السّيل
في منطقتنا، جرت عملية تجريف ممنهجة لأوجه النشاط السياسي كافة، وإغلاق كل مجال للنقاشات العامة. وهذا من ناحية يرجع لنوعية الأنظمة الحاكمة القمعية. ومن ناحية أخرى، لطبيعة مجتمعاتنا، التي لم تنل من الحداثة سوى قشرتها السطحية، فيما ظلت بُناها الاجتماعية، وتنظيماتها السياسية وأطيافها الفكرية، متخلفة جداً، ترتهن للمذهب والعشيرة والعِرق. وهذه التركيبة بقدر ما أفادت النظام السياسي في اللعب على توازناتها، أفاد هو بعضَ شرائحها الفئوية، لتصبح حواضن مؤيدة لسياساته، ترتقي لأن تكون منظومات "ولاء وبراء" بمعناها القديم. وهذا مُشاهَد في عزوف كثير من القطاعات في أكثر من بلد عن المشاركة في الثورة، أو بالعكس، حماسة قطاعات معينة للثورة، بناءً على شعورها بالنبذ والتهميش.
فبالتالي، وجود قيادة منظّمة وواعية، لديها تصورات ناضجة للمستقبل، لا يتنافى مع طبيعة الوضع القائم فحسب، بل يتنافى كذلك مع مفهوم الثورة نفسه، التي هي بكلمة واحدة: هـيَجان.
جدوى المغامرة
من المعيب المزايدة على من يريد مقومات الحياة البسيطة والضرورية: أمن، سيولة مالية، كهرباء، فرص عمل إلخ، من غير اكتراث كبير بـ"الصداع الديمقراطي".
لكن باتفاقنا حول النقطة الأولى بخصوص حتمية مجيء لحظة الزلزال السياسي، يكون سؤال الجدوى فاقداً للجدوى بدوره.
لا البوعزيزي في تونس ولا غُنيم في مصر، كانا أسباب الثورات، ولا حتى "شرارتها". الثورات/الانتفاضات/ الحروب الأهلية إلخ، هي نتيجة عقود مديدة من الكوارث التي أنتجتها واستثمرت فيها دولة الاستقلال العربية الحديثة. وهي عبارة عن مسخ شديد الركاكة والتخلف.. والعنف أيضاً.
فعلى رأي "أنا الغريق فما خوفي من البللِ"، قرر كثيرون إحراق السفن.
لعقود، ظل العقلاء الشجعان، في نضالاتهم السياسية والفكرية، يحذّرون من مجيء "يوم الدينونة" هذا إن لم نتدارك السّيل. والنتيجة كانت تعليقهم على المشانق، أو تركهم يتعفنون في السجون، أو مطاردتهم في الخارج قنصاً وذبحاً. ومن نجا من القتل والاعتقال، لم ينجُ من الوسم بالتخوين والعمالة.
وفي النهاية، مساءلة مسار 2011 وما بعده، في كل دولة من دول "الربيع"، يظل مشروعاً ومهماً، وهو بالفعل قائم ومتجدد، خصوصاً مع الانقسامات المتشظية لـ"معسكر الثورة"، وإعادة قوى الأنظمة الساقطة والمتساقطة تشكيل نفسها، وفق عناوين جديدة، مستغلّة عديد الإشكاليات بالغة التعقيد.
وهذه الصراعات الفكرية والمجتمعية والسياسية، الضرورية والمُكلفة في آن واحد، لا يبدو أنها ستنقضي خلال العقود القليلة القادمة، وهي نتيجة طبيعة لـ"مائة عام من الفَشَلة".. ، مع الاعتذار لماركيز.