عن الترجمة وشجونها... تَكلّمْ لغة الدنيا
عبد الحفيظ العمري
يحدثنا التاريخ عن أيام الازدهار العلمي للحضارة العربية الإسلامية في عصر الخليفة العباسي هارون الرشيد، مؤسس بيت الحكمة في بغداد سنة 180هـ، ومن بعده ابنه المأمون، وبلوغ العلماء المسلمين والعرب أعلى درجات الإجادة في مختلف العلوم التي درسوها، لدرجة أنّ الأوروبيين، الذين كانوا غارقين في ظلام العصور الوسطى، كما هو حالنا اليوم، جاؤوا إلى جامعاتنا العربية، كبيت الحكمة في بغداد وقرطبة وإشبيلية وغيرها، ليتعلّموا منها تلك العلوم، ناقلين كتب جهابذة علمائنا إليهم كي يستفيدوا منها.
ويذكر التاريخ أنّ كتاب القانون في الطب لابن سينا ظلّ مرجعاً في كلياتهم حتى القرن الثامن عشر الميلادي، ومثله كتاب الحاوي في الطب للرازي، الذي ظلّ المرجع الوحيد المعترف به في جامعات أوروبا حتى القرن السابع عشر، وكذا كتب الخوارزمي في الرياضيات، وابن الهيثم في البصريات وغيرهم.
وأطلقت كثير من مصطلحات العلوم كما سماها العلماء العرب؛ على سبيل المثال، علم الجبر algebra، المأخوذ من عنوان كتاب الخوارزمي (الجبر والمقابلة)، وسُمي التسلسل المنطقي للبرامج الخوارزميات algorithm نسبة للخوارزمي، العالم المسلم، الذي وضع مجموعة من الخطوات المنطقية والمتسلسلة لحلّ أي مشكلة، وقد ظلّت هذه التسميات حتى اليوم.
لم تكن اللغة العربية عائقاً أمام الأوروبيين في أخذ العلم؛ فلمّا كانت العلوم بلغة العرب تعلّموا العربية، على صعوبتها، ليأخذوا العلم، حتى أنهم لمّا لم يجدوا لبعض المصطلحات العلمية العربية نظيرا لها في لغتهم نقلوها كما هي، وانظر معي إلى الكلمات التالية: الإمبيق alembic (جهاز لتقطير السوائل)، الأنيلين aniline (مادة كيميائية تُستخدم في صنع الأصباغ، وقد جاءت اللفظة من النِيْلة العربية)، الكحول (alcohol)، النخاع (nucha)، السَّمْت (azimuth)، (مصطلح في علم الفلك، يعني أي نقطة تقع فوق شخص ما يقف على الأرض)، وأيضا مضرب التنس (racket) المأخوذ من كلمة راحة العربية، وغيرها الكثير.
دارت دورة التاريخ وأصبحنا نأخذ العلم من الغرب، طبعاً بلغة الغرب، فمَنْ لديه العلم هو الذي يفرض لغته
أسوق هذا الكلام لما هو عليه حالنا اليوم؛ فالتاريخ قد دارت دورته وأصبحنا نأخذ العلم من الغرب، طبعاً بلغة الغرب، فمَنْ لديه العلم هو الذي يفرض لغته.
لذا أقول: فلنأخذ العلم بالإنكليزية أو الفرنسية أو حتى اللاتينية، بأيّ لغة كانت، ولا ضير في ذلك، الغاية أنّ نواكب وتواكب لغتنا ومصطلحاتنا مسيرة العلم، وإذا لم نجد لهذا المصطلح العلمي نظيرا في لغتنا، فلنفعل كما صنع الأوروبيون آنذاك، ولننقل المصطلح كما هو، المهم أن يصبح معناه مفهوماً لدينا، لأنّ المصطلح ما هو إلا دلالة للمعنى.
أقول هذا، بدلاً من الاستغراق في البحث عن كلمة مقابلة لأي مصطلح علمي في مندثرات لغتنا العربية، التي لم تعد متداولة عربياً، فما بالكم بتداولها علمياً!
فقد أغرقت بعض المجاميع اللغوية العربية في الترجمة العربية، بل وأصرّت على أن تأتي بلفظ عربي فصيح جداً لترجمة مصطلح علمي غربي، فكانت النتيجة أنّ الكلمة العلمية العربية التي استُخرجت من تحت ركام عصورنا القديمة صارت أكثر غموضاً، على عربيتها، من اللفظ الغربي نفسه، وتحتاج إلى قاموس عربي لترجمتها إلى معنى نفهمه في وقتنا الحاضر!
خذوا مثلاً: كلمة (psychrometric)، فقد تمت ترجمتها بكلمة (مَصْرَدي)؛ فنقول (psychrometric chart) مخطط مَصْرَدي، ولاحظوا الكلمة (مَصْرَد)، وتعني (في المعاجم العربية) السقي دون ري.
يقول النابغة الذبياني:
وتُسْقى إذا ما شئتَ غيرَ مُصَرَّدٍ ... بِزَوْراءَ في حافاتِها المِسْكُ كانِعُ
وهي كلمة فصيحة نعم، لكنها لم تعد متداولة، وكانت تفي بالغرض الترجمة بالرطوبة أو الهواء المشبع أو نحو ذلك.
إن الهدف من ترجمة الألفاظ العلمية هو تقريبها وليس تعقيدها، فإذا أردنا أن نتحصّل على العلم فيجب أن نتكلم اللغة التي تتكلم الدنيا كلها بها، أو نحسن الترجمة منها.
ولا ننسى أنّ لغة العلم صارت عالمية وليست ملك ثقافة معينة بذاتها، أي صارت مِلْكاً مشاعاً للجميع، وقد عبّر عن ذلك رئيس مجمع اللغة العربية في القاهرة للفترة (1995-1974م)، الدكتور إبراهيم مدكور، بقوله: "العلم هو تراث البشرية جمعاء، ويجب أن نفسح المجال فيه بتبادل الألفاظ كما نتبادل الأفكار والمعاني".
لغة العلم صارت عالمية وليست ملك ثقافة معينة بذاتها، أي صارت مِلْكاً مشاعاً للجميع
وهنا أسجل استغرابي من كتابة المعادلات الكيميائية في بعض دولنا العربية بحروف عربية!
إنّ رموز العناصر الكيميائية صارت عالمية، والجدول الدوري دستور كلّ كيميائي على وجه الأرض اليوم، ففيمَ هذا التزمّت في كتابة تلك الرموز بحروف عربية؟!
إنّ قدامى المترجمين العرب طوّعوا وسائل لغوية متاحة في العربية لتوليد المصطلحات عند نقلهم علوم اليونان والفرس وغيرهم إلى العربية، وقد أورد الأستاذ أحمد شفيق الخطيب في مقدمه مُعجمه "معجم المصطلحات العلمية والفنية والهندسية الجديد"، هذه الوسائل التي تتلخص في ما يلي:
(1): تحرّي لفظ عربي تراثي يؤدي مفهوم اللفظ الأجنبي.
(2): إذا لم يكن للفظ الأعجمي مقابل في العربية، وكان قابلًا للترجمة، تُرجم بمعناه.
(3): النحت، ولو على نطاق ضيق، فيُختصَر من كلمتين أو أكثر كلمةٌ واحدة.
(4): أما إذا تعذّر وضع لفظ عربي بالوسائل المذكورة، فيُعْمد إلى التعريب بنقل المصطلح بلفظه الأجنبي مليّنًا قدر المستطاع بصيغة عربية.
ويضيف: "التعريب الاقتراضي في مجال العلوم المتخصّصة هو السبيل العملي لمواكبتنا مسار تقدمها ومتابعة إنجازاتها وأبحاثها، وبمثل هذا التعريب نُثري لغتنا بمصطلحات علمية تكاد تكون مشتركة بين العلماء والباحثين في كل لغات العالم".