عن حرب غزّة والأدب
لا اختلاف على أهمية الأدب في التعبير عن مختلف أبعاد الإنسان والمجتمع النفسية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، ويتجلّى ذلك خاصة في نتائج الكثير من الأعمال النقدية والتاريخية والحضارية التي اشتغلت على النصوص الأدبية، وساهمت في اكتشاف ما لم يُسجّل من تلك الأبعاد، وتأكيد أهمية بعض الروايات ومحتواها ودحض أخرى حول ما تضمنته عن مراحل مختلفة من التاريخ.
وتتضاعف أهمية الأدب في مراحل وأحداث تاريخية مفصلية ونوعية، بل إنّ بعض هذه الأحداث يمكن أن يُحدث منعرجات في الكتابة، شكلًا ومضمونًا، سواء في اتجاه التجديد والخروج عن السائد أو في اتجاه الانكفاء والمحافظة. وفي تاريخنا العربي المعاصر مثلًا، كانت هزيمة 1967 لحظة فارقة أثارت ردود فعل كثيرة، تجلّى جزء منها في الأدب من خلال الكثير من القصائد والأعمال الروائية التي عبّرت عن تلك اللحظة وسياقاتها الاجتماعية والسياسية والفكرية، والتي امتدت ارتداداتها إلى عقود (تجلّى ذلك في بعض أعمال نجيب محفوظ، وصنع الله ابراهيم، وحليم بركات، وسعد الله ونوس، وأمل دنقل، وفؤاد نجم، وغيرهم...). هذا مثال للقول إنّ كل حدث كبير له ارتدادات في الأدب، أو له أدبه إن صح القول، وإن جاء ممتدًّا في الزمن.
أكتب هذا ونحن في سياق حدث جار إلى اليوم، ألا وهو طوفان الأقصى/ حرب غزّة، وهو الحدث الكبير من أي زاوية قلََّبته. لا نحتاج هنا إلى استعادة ما حدث ويحدث، وهو حدث يُشاهَد يوميًّا مباشرة، ويكشف حجم المعاناة الإنسانية من جهة، ومن جهة أخرى حجم العدوانية المتجاوز لكلّ الأعراف، كمًّا ونوعًا.
كلّ حدث كبير له ارتدادات في الأدب، أو له أدبه الخاص إن صح التعبير
ما يهمني هنا هو التساؤل حول أثر هذا الحدث في الأدب: هل يمكن أن تنشأ نصوص من رحمه وتحت تأثيره؟ هل يمكن أن تحدث هذه النصوص تحوّلًا ما في المضامين وحضور الأشكال الكتابية المختلفة؟ أيّ أثر في الأدب لفجيئة الحدث ونوعيته، للسياقات المحيطة به، للروح الانتصارية التي تملّكت الشعوب العربية، لصمود المقاومة وعجز الاحتلال عن تحقيق أهدافه، لمعاناة سكان غزّة وقصصهم التي لا تُحصى مع الخوف والموت والفقد والجوع والتشريد؟ ما أهمية وجود هذا الأدب، وأيّ دور له في حاضر القضية ومستقبلها، خاصة أنّنا أمام واقع جدير بالتسجيل كي لا يزوَّر التاريخ مرّة أخرى؟
لا شك أنّ الأدب يحتاج إلى الوقت لاستبطان الأحداث والتفاعل معها، مع ذلك ثمّة بعض النصوص التي كانت نتيجة مباشرة لما يحدث في غزّة، ومنها يوميات الروائي الفلسطيني، عاطف أبو سيف التي نُشرت على صفحات العربي الجديد.
لقد كشفت هذه اليوميات ما لم تكشفه الكاميرا، حيث بدت صوتًا لدواخل الكاتب، وللناس المحيطين به، القريبين منه والبعيدين عنه، صوت النباتات والأشجار، صوت الليل والنهار والصباحات والأماسي، صوت المباني والطرقات، صوت الماضي والحاضر والمستقبل، صوت كلّ ذلك وغيره مما هو على هذه الأرض، وهو تحت النار، وبين الحياة والموت. إنّها، في العمق، صوتٌ لكلّ الضحايا ولكلّ اللحظات التي عاشها الكاتب، وهو في قلب الحدث. ولأنها كذلك، فهي شهادة ستبقى الى الأبد، تروي الحقيقة وتلعن الجناة، وتبقى سدًّا وصدًّا منيعًا في مواجهة سرديتهم الكاذبة، خاصة أنّهم مختصون في نحت السرديات بما يحوّلهم من جناة إلى ضحايا.
ما عاشه ويعيشه أهل غزّة في حاجة إلى أطلس كامل من كتابة اليوميات التي تسجل كلّ ما لا تصل إليه الكاميرا
هذه النصوص التي جاءت في شكل اليوميات، وهو شكل قليل الحضور في المدونة الأدبية العربية، وفي الثقافة العربية عمومًا، هي الأكثر مناسبة للكتابة تحت وقع هذا الحدث، حيث كلّ أشكال العنف والألم والخوف تولد الانفعالات القوية والأسئلة الداخلية التي لا تنتهي. وهو الوضع الذي لا يترك مجالًا لكتابة متأنّية، ولخيال يتحرّك ببطء، وينتج عوالم أخرى مغايرة للواقع. ولذلك يجنح الكاتب، في مثل هذه الحالات، إلى الذات وما حولها، وإلى ملامح المحيطين به، فيسجّل كلّ ذلك بلغة أدبية تحمل حرارة المشاهد والمشاعر وتبقيها حيّة طازجة.
يجد قارئ هذه اليوميات نفسه في الطرقات المجروفة، وبين المباني المهدّمة، وتحت الخيام، بلا ماء، ولا كهرباء، ولا طعام، يسمع أزيز الطائرات ودوي الانفجارات، وداخل الذات الإنسانية العميقة، فتتسرّب إليه مشاعر الحزن والخوف التي تجعله عالقًا بين الموت والحياة والجوع والعراء، كأنّه مجاور لكلّ الضحايا هناك، لينتصر لهم ويدرك حجم العدوانية واللاإنسانية للمحتل.
فهل تكون هذه اليوميات النص الأول من أدب هذا الحدث؟ وهل هناك يوميات أخرى لأناس وكتّاب غزاويين وغزاويات آخرين وأخريات يمكن أن تنشر لاحقًا لتكون شهادة على ما وقع، انتصارًا للحق والضحايا اليوم وغدًا، وتكون عبرة للبشرية في المستقبل، ولا تتكرّر؟
أعتقد أنّ ما عاشه ويعيشه أهل غزّة في حاجة إلى أطلس كامل من هذه اليوميات التي تسجل كلّ ما لا تصل إليه الكاميرا، خاصة قلقهم وخوفهم وتفاعلاتهم مع كلّ ما حولهم، وتفاصيل حياتهم الإنسانية البسيطة في أجواء الحرب والجوع والتشريد.