عن يوم الكتاب: سؤالٌ في الرّيح لا جواب له
مرّ اليوم العالمي للكِتاب وحقوق المؤلف بالشّكل المعتاد تقريباً. عُقدت فيه بعض اللِّقاءات الصغيرة، وجرى إحياءُ أنشطةٍ هنا وهناك، وبروحٍ تطوّعية للقلّة القليلة من دورِ النّشر والمكتبات تمَّ تخفيض سِعر الكتب تشجيعاً على القراءة؛ لكن، من يقرأ؟
تنشطُ حياةُ الكِتاب في حلقةٍ صغيرة، هي حلقة الكُتّاب أنفسهم ودوائرهم المغلقة، فيما يغيبُ أثرهُ في الحياة العامة. وعند القيام بجولةٍ صغيرةٍ في بلدٍ أوروبي، سيكون الأمر مثل تقليبِ صفحاتٍ، أو قراءةِ فهرس، أو أنّ أحداً ما يهمسُ في كلِّ مرّة في أذنك بأسماءِ مؤلفين تزدحمُ بها المدينة. تكاد تشعر وأنت في فرنسا مثلاً، بأنّ باريس على وشك أن تغيّر اسمها إلى "فيكتور هيجو" من كثرةِ مصادفةِ اسم هذا الأديب في الأماكن التي تقودك إليها قدماك. سترتعش من الغبطة وأنت تتبع طريق الشّاعر آرثر رامبو في نزهةٍ عبر مدينة شارلفيل ميزيير، حيث يمكنك مراقبة الأماكن المختلفة التي عاش فيها، إلى أن تصل حيث يُقال إنَّ الشّاعر، هنا، كتبَ رائعته: "فصلٌ في الجحيمِ"؛ تقف ضائعاً عند تقاطع شارعين، ثم تُدرك فجأة، أنّ أحدهما يحمل اسم روائي أفعمتك روايته بمشاعر فوق أن تُوصف، والآخر اسم فيلسوفٍ أضاء زاويةٍ من عقلك.
تمرّ بين الأزقة وبمحاذاةِ المقاهي والمطاعم وأنت مفعمٌ بروحِ الكُتب وإلهاماتها العظيمة. ثم سَتُغنيك ولا شكَّ، تماثيل تلك القامات الرِّوائية والشِّعرية والفكرية المنتصبة في الحدائق والضواحي والسّاحات، عن كلِّ كلامٍ حول الاحترام الشديد الذي تُكنّه تلك الشُّعوب للكتّابِ؛ ففي كلِّ زاويةٍ تلويحةٌ تدعوك إلى حلمِ القراءة، من مكتباتِ الشارع المجانية، إلى مساكن أصبحتْ متاحف لكتّابٍ عاشوا فيها، أو حتى كراسٍ لمقاهٍ تحفظ ذكرى أسماء أدبية كانت تتردّد عليها، ثمّ قرّاء تُصادفهم في الحديقة أو المترو والحافلة، يشجعونك على تقليبِ صفحاتِ خيرِ جليسٍ في الدنيا. إنّ الكتاب هنا برموزه هو وجهُ البلد الذي يرفعه عالياً ليفاخر به الأمم.
تنشط حياة الكِتاب في حلقة صغيرة، هي حلقة الكُتّاب أنفسهم ودوائرهم المغلقة، فيما يغيبُ أثرهُ في الحياة العامة
أمّا ونحن نمشي في شوارع مدننا العربية، فالأمرُ باعثٌ على الإحباط. يُلغى الكِتاب وتنعدم أيّة إشارةٍ إليه، إلا من مكتباتٍ محشورة في الزاوية، وأكشاك صغيرة مُفلسةٍ لا يتنبه إليها المارّة. تُقاوم بكلّ ما بقي فيها من استماتة، كي لا تتحوّلَ إلى محلاتٍ لبيع السجائر. كما لا يمكننا الظفر إلا نادراً بتلك المصادفة السعيدة، كحدثِ الكسوف، مُصادفة شخص يرفع كتاباً إلى عينيه ليقرأ في منتزه، أو باص؛ على الرغم من شساعةِ مدينةٍ كبيرة، كالرباط مثلاً.
أمر مُستغربٌ أن يقرأ شخصٌ ما كتاباً خارج ما تُلزمُه به المؤسّسات التَّعليمية. إنّ القراءة الحرّة التي يدفعنا إليها الشّغف، مخاطرة، تشبهُ حشو لفافة تبغ ببودرة حشيش. فبمجرّد أن تفتح كتاباً في ساحةٍ عُمومية، أو في انتظار الترام حتى تبدو في نظرِ الآخرين شخصّاً غريباً شاذّاً عن القاعدة، مثيراً للسُّخرية. ذلك أنّ الجلوس بأريحيةٍ مع كتاب، لا بدّ وأن يَسِمك بغرابةِ الأطوار، أو في حُكم بشعٍ، بالتصنّع.
الكتبُ تفسد الأخلاق، وتضعف النّظر وتُذهب العقل، إنّها تؤدي في بلادنا إمّا إلى الجنون أو السّجن. هذا ما سمعته مراراً وتكراراً، مما عزّز لديّ الإحساس بـ"القراءة"، كما لو كانت فِعلاً مُقاوماً، وسلوكاً متمرّداً على المجتمع كلّه. والحقيقة أنّها كذلك.
الكتب في بلادنا تؤدي إمّا إلى الجنون أو السّجن
في العامِ المقبل سيكون قد مرّ على تأسيسِ الموعد السّنوي العالمي للكِتاب وحقوق المؤلّف ثلاثة عقودٍ كاملة. ويكون قد مرّ على تأسيس دولنا العربية الحديثة أكثر من ذلك بكثير. ومع كلِّ هذا الزّمن، لا نزال متثاقلين عن تحقيق ملامح النهضة والحضارة التي تستحقها شعوبنا. ما زلنا لا ندركُ أنّ الكتاب هو النهضة والقوّة والمكانة بين الأمم، وأنّ القراءة المفتوحة على سؤالِ المعرفة وجمالية الآداب الإنسانية هي ما سيُغذِّي فينا على المستوى الفردي الشُّعور القويّ بالثقة، والوعي المنفتح على الآخر. هي ما سيخرجنا من الانقساماتِ الطائفية وبردياتها القديمة، إلى الوحدة والتماسك، وإدراك قيم المواطنة.
لكن، للأسف الشديد، أشعرُ بأنّنا ما زلنا في مستنقعِ جهلنا وتخلّفنا الكبير. فمهما بالغتْ بعض الدول العربية الثرية في رفعِ الأبراج ومنافسَة اقتصادات الدول، فلن تحرّك العالم. إنَّ ما يقوده نحو وجهته الأسمى ويلهمه الحداثة والحضارة هي الشعوب القارئة. لنابليون بونابارت مقولة سديدة تُعجبني: "أرني عائلة من القرّاء، وسأريك الأشخاص الذين يحرّكون العالم". أتساءلُ في نفسي: لم لا يمتلك السياسيون، والفاعلون المدنيون في مجتمعاتنا العربية مثل هذه الإرادة؟ إرادة صنع مجتمعات قارئة؟ إنّهُ سؤالٌ في الرّيح لا جواب له.