غرباء في أوطانهم
من أصعب الأمور اليوم أن تحاول تعريف الوطن، هل هو فعلاً الموقع الجغرافي الذي ننتمي له، أم هو الدولة التي نحمل جنسيتها، أم أنه الثقافة التي يحملها كل منا، ما دلالة معنى الوطن إذاً في زمن أصبح كلّ شيء فيه سائلاً ويندلق عبر الحدود.
مظاهر ثقافية توحد الناس عبر اختلاف أجناسهم وجنسياتهم، أذواق يتشاركها الناس في المشرق كما المغرب، تفاهة واحدة تحكم وتتحكم في عقول الشباب من الناشئة اليوم، من يستطيع أن يعرف معنى الوطن اليوم في ظل هذا الوضع الذي يدعو للاستغراب.
في اللغة العربية تدل كلمة وطن على المنزل الذي يسكنه الفرد، بما تحمله كلمة منزل للرجل العربي من حمولات دلالية، الألفة، الأمان، الانسجام، وبالتالي فالغريب كل من لا ينتمي لهذا المنزل، كل من لا تأمنه فهو غريب، غير أن السؤال هنا ماذا لو أصبح الإنسان غريباً داخل وطنه، ماذا لو أصبح لا يأمن على نفسه وهو داخل منزله، في المقابل ماذا لو شعر الإنسان بهذا الدفء وهو خارج هذا المنزل، هل يكون ذلك هو وطنه؟
كم مرة أنظر إلى فئة من الشيوخ، وهم يتطلعون إلى الجيل الجديد من الشباب بتبرم، بل كم مرة أرى صداما يقع بينهم، هل ينتمي هؤلاء لنفس الوطن، أم أن كل واحد منهم يعيش وطنه الخاص، داخل هذا الوطن الشاسع الذي لم تعد له حدود تميزه عن غيره، أصبح الغريب مألوفاً ومستأمناً أيضاً، وكيف لا وها نحن نجد فرقا موسيقية عابرة للقارات، لها أتباع في جميع البلدان، بالنسبة لهؤلاء لا وطن لهم إلا داخل إطار هذه الفرقة، ولا أفكار لهم إلا ما يتداول داخلها أيضاً، أليس هؤلاء بغرباء وهم داخل أوطانهم.
لم لا يزال الناس في العالم العربي، يفضلون الانتماء للقبيلة، العشيرة، العرق، الطائفة، بدل الانتماء للوطن
لم لا يزال الناس في العالم العربي، يفضلون الانتماء للقبيلة، العشيرة، العرق، الطائفة، بدل الانتماء للوطن، أو لنسأل أصلاً ما الذي تعنيه لهؤلاء كلمة وطن، أليست هي القبيلة أو العشيرة، أو حتى الحزب السياسي، أو الولاء الأيديولوجي لطائفة معينة، أليس فيها يجدون شروطا المفروض توفرها في الوطن، الأمان، الألفة، وبالتالي فهي التي يستطيعون إسناد ظهورهم لها، أليس أيضا هؤلاء غرباء وهم داخل أوطانهم، أليس يعيش هؤلاء في وطن داخل وطن.
ماذا لو كنت مختلفاً ثقافياً عن أولئك الناس الذين يفترض أن تعيش معهم، ماذا لو كنت كما قال سراماجوا وحدك التي تستطيع أن ترى النور وسط مجتمع من العميان، كيف يا تر ستكون حالتك النفسية، ألا تشعر بذلك الإحساس الذي شعره كونديرا وهو يكتب روايته الجهل، ألا تحس بشعور النبذ والإقصاء، ألا تشعر فعلا أنك غريب داخل وطنك، هل تساءل أحد منا كيف كان يشعر دوستويفسكي، وهو يكتب لمجتمع لا يفهمه، أو صاحب كتاب إنساني مفرط في إنسانيته، وهو يصرخ بملء فمه في مجتمع لا يريد أن ينصت إلى وصاياه، وكأنه حارس قطيع، يحاول جهد نفسه أن يمنعه من الذئاب، غير أن القطيع لا يتجاوب معه ويصر على الذهاب للمقصلة.
أكتب هذه المقالة، وأنا أستحضر مجموعة من المفكرين الذين يمكن أن أصفهم بأنهم غرباء داخل أوطانهم، أو مواطنون سرق منهم وطنهم، وهم أولئك الذين كانوا ينقبون في الماضي علهم يجدون شيئاً من ذلك الوطن المسروق، بل علهم يستطيعون الوقوف على ملامحه عل أحد منهم يستطيع أن يرسم صورته في ذهنه، لكن هل وجد أولئك الوطن، هل استطاعوا في الأخير أن يقر لهم قرار أن ما توصلوا إليه هو وطنهم، أم تراهم ظلوا تائهين.
ماذا عن أولئك الذين يحاولون استنساخ أوطان الآخرين، وذلك فقط لأنهم يشعرون بالألفة داخلها، أو فقط لأنها تحقق لهم شرط الحياة، وهو الحماية والأمن من الجوع والخوف، فلم يعودوا يرون من صورة للوطن إلا ذاك الذي آواهم حين استضعفهم الناس، فلم يجدوا بداً من رد الجميل لهم إلا بهذه الطريقة أيضاً، أليس هؤلاء هم غرباء أيضاً داخل أوطانهم، فما الوطن إذن؟ هل من حقنا أن نسأل هذا السؤال اليوم، أم تر أن لا وطن هنا، بل كل يصنع له وطنا على مقاسه، ومتى لم يعد يحقق له شروط الحياة فإنه يغيره.