غزة... نزوحٌ فوق الموج
رغم الثياب المتراكمة فوقي، والمعطف الثقيل، لم يكن البرد رحيمًا بي، كان يتخلّل كلّ ذرةٍ في جسمي، أشعرُ به سوطًا على ظهري، وسقمًا في بطني، ونِيرًا على عاتقي، ولا يدفئني منه شيء، ولا يقيني من برده إلا الولوج في منزلٍ مغلق النوافذ كلها، بلا شرّاعة واحدة، ولا هوّة في الجدار، ولا فتحة في الباب، تعلوه أدوار تحجب عنه برد السماء، وتدنوه طوابق تحجب عنه برودة الأرض، فلا يصلني منه إلا ما يمسّ الخدّين إذا عرضتهما للهواء من نافذة صغيرة، وحولي أغطية، وتحتي فرش، وأمامي ما شئت من مشروبات دافئة، ولديّ خيارٌ أن أشغل المدفأة، أو لا، وقدماي محشورتان في ركنٍ دافئ يجمع أطراف الغطاء بطرفي، حيث يتركز دفء كبير، ومع ذلكم كلّه، لم يكن البرد رحيمًا بي!
في الدرجة ذاتها، فوق الصفر، أو أقل، تتراصّ الأسر في خيامٍ بالية، أكياس مهترئة من النايلون، لو وجدتها في بيتك لأعفيتها من إعادة تدويرها، تتلاصق معًا بشعرة معاوية، تكاد تسقط فتنهار الخيمة الزائفة بالكامل، تستند إلى أعواد من خشبٍ سرعان ما تتبدّل لاستعمالها في الحطب، وعلى رملة الشاطئ، حيث تخلو شواطئ البحار في كلّ البلدان، يجتمع عشرات الآلاف على امتداد ساحل غزة، لأنه كان ملجأً لهم حين ضاق عليهم البرد، فدقوا خيمهم (المجازية، فهي ليست بخيام) على الرمال المتحرّكة، حيث تموج بهم في كلّ موجة، لكن لا بأس، كان الصيف مجالًا يتحمّل ذلك "الهزار البايخ" من الطبيعة، لكن جاء الشتاء، فأيّ هزلٍ يقوم به البحر؟ وأيّ دموع تلك التي ألقيناها فيه ساخنة فردّها علينا أمواجًا من صقيع؟ أهكذا تُردّ الديون يا بنَ أمي؟ أهكذا تقف معنا في الشدّة يا بحر؟ يردّ البحر، بأنه لو توقف سيموت، وحينها لن يكون في المدينة كلّها، شيءٌ واحد، يدل على أمل الحياة!
يرتعد الصغار، يبكي الكبار، لا حيلة لمن ضاق به البر فلجأ إلى اليم، ثمّ ضاق به اليم... ماذا عليه أن يفعل سوى أن تسعه السماء؟
يرتعد الصغار، يبكي الكبار، لا حيلة لمن ضاق به البر فلجأ إلى اليم، ثمّ ضاق به اليم، فماذا عليه أن يفعل سوى أن تسعه السماء؟ ولكن أين السبيل إلى السماء دلني؟ إلا أن تتخطّفني غارة، أو يأكلني قصف، أو تُجهز عليّ رصاصة فتنتشلني من برد الأرض إلى دفء باطنها، حيث تنعزل عن الشعور جلودُ الشهداء، فتكون الجثامين مبعثرةً أو مجزّرةً، وتكون أرواحهم لاهيةً في نعيم مقيم، ودفء لا تعكّره أمواج كالزمهرير.
ترتجف أنامل غزة، تزرقّ شفاهها، تبكي ويغيب الدم من وجهها، وتحضر الدموع، عزيزةً، ساخنةً، كأنها السبيل الوحيد لتدفئة الوجه، كخندقين من حممٍ، متسلّلين من بركان، في قلب جبال من ثلج، ولا يعبأ بها إلا أهلها، وقد غاب الناس، وهل حضر الناس حتى يغيبوا؟ يتأبّط الجميع حول غزّة بطانياته وألحفته، ويتوسّد وساداته وأسرّته، بينما تتخذ غزّة من المياه المالحة سريرًا لها، يسرّع من صعودها إلى السماء، وقد استنفدت كلّ ما في الأرض من ابتلاءات، وهي ترتعد فرائصها، بينما ترى أمام عينيها انعكاس وجهها في الماء، حيث يجتمع الدم والدموع والغرق، بينما ينتفض قلبها بالشكوى إلى خالق الأكوان كلّها، ربّ الخيمة والبيت، ربّ البحر والبر، تشكو إليه كلّ هؤلاء الدافئين، فلا ينجو من دعواتها إلا من ارتجف مثلها!