فرصة سعيدة شبه ضائعة اسمها سعيد صالح (4)
لم يكن سعيد صالح يتخيل قضاء حياته بأكملها في دنيا الفن، فقد كان أبوه العامل البسيط في شركة شل للبوتاجاز قد تلقى تعليماً أزهرياً في صغره، ولذلك كان يتمنى أن يحفظ سعيد القرآن الكريم، ولذلك أدخله الكُتّاب على أمل أن يستكمل تعليمه الجامعي في الأزهر، ولكي يتلقى تعليماً نظامياً أدخل الأب سعيد إلى مدرسة الجمعية العامة للمحافظة على القرآن الكريم في الدقي التي ولد فيها في منطقة داير الناحية، وحين دخل سعيد فريق الأناشيد في المدرسة لم يكن متميزاً في الغناء بقدر تميزه في قراءة قصائد الشعر بأداء مسرحي، ومن هنا بدأ اهتمامه بالتمثيل، لكن المدرسة المحافظة لم يكن فيها فريق تمثيل، فقرر أن يتركها ويلتحق في المرحلة الإعدادية بمدرسة النهضة المصرية في شارع الظاهر، والتي كانت تجاور بيت عمته، ولأنه كان الأخ الكبير على أخواته البنات الثلاث وأول حفيد لجديه، فقد استجابت الأسرة لطلبه تدليلاً له، ووافقت أمه التي كانت علاقته بها قوية جداً على أن يبتعد عنها بعد أن شعرت أنه غير سعيد في مدرسته السابقة.
بدأ سعيد صالح إدمان الفرجة على أفلام السينما منذ انبهر برؤية نجيب الريحاني في فيلم (لعبة الست) الذي كان أول فيلم شاهده في سينما سمارة بالظاهر ـ كان اسمها سينما الخديوي إسماعيل سابقا وقام صاحب السينما بتكوين لافتة اسمها الجديد من الحروف الموجودة في لافتة السينما القديمة ـ وأصبح وقت سعيد موزعاً ما بين أربعة دور عرض سينمائية يشاهد كل ما تعرضه، وبين المسرح المدرسي، وهو ما جعله يرسب لأكثر من مرة في المرحلة الإعدادية، مرة رسب في مادة الدين لأنه ظن أن المدرسة تأخذ إجازة، ومرة سمع من زملائه أنه رسب في اللغة الإنجليزية فقرر أن يهرب من البيت وكان لديه 12 سنة وقتها، وسافر بالفعل إلى الإسكندرية على أمل أن يركب من هناك سفينة إلى أوروبا، لكنه عاد إلى بيته في الدقي بعد ما نفدت فلوسه، وحين وصل إلى البيت وجد أسرته تحتفل بنجاحه في المدرسة، والذي لم يكن لديه أي فكرة عنه.
حين انتقل سعيد إلى المرحلة الثانوية حاول أبوه إلحاقه بمدرسة السعيدية المرموقة، فلم يقبلوا به بسبب تكرر رسوبه في المرحلة الإعدادية، وبعد أن فشل في إلحاقه بعدد من مدارس الجيزة وجاردن سيتي، تمكن الأب من إلحاقه بمدرسة المبتديان الثانوية التي كانت سبباً في تغير حياته، حيث التفت إلى موهبته التمثيلية مدرس لغة عربية اسمه مصطفى أبو كريشة كان مشرفا على فريق التمثيل في مدرسة المبتديان، وكان يقول للجميع بحماس: "الواد سعيد ده ينفع يبقى ممثل حلو أوي"، وقرر سعيد أن يهتم أكثر بدراسة المسرح والتمثيل فبدأ يذهب مع زميله عطاء النقاش شقيق الكاتب رجاء النقاش إلى مكتبة السفارة الأمريكية التي توجد بها كتب عن السينما والمسرح والتمثيل، وبدأ في الاشتراك في مسابقات المسرح المدرسي بتشجيع من ناظر المدرسة زكي الشيباوي الذي كان رئيساً لاتحاد المدارس الحرة، وكان يحضر لفريق المسرح في مدرسته ممثلين محترفين ليقوموا بتدريب الطلاب، حتى أنه استعان بالدكتور أحمد بدوي أستاذ الإلقاء في المعهد العالي للفنون المسرحية ليدرب الطلبة على النطق السليم.
لن تستغرب أن يشير سعيد صالح طول الوقت إلى أن حياته كانت "ماشية دايماً بالبركة وبستر الله"، وهو ما جعله لا يلقي بالاً لأهمية التخطيط والتفكير الطويل قبل اتخاذ القرارات
بعد سنوات من العمل في كل ما أمكنه الوصول إليه من فرق الهواة، بدأ سعيد صالح مشواره الفني كمحترف في عام 1962 حين تقدم للالتحاق بمسرح التلفزيون، وحاز على المركز الأول من بين 800 متقدم، وتم تعيينه بأجر 12 جنيه في الشهر، ليقدم أدواراً صغيرة ولافتة في مسرحية (الطريق المسدود) التي أخرجها أستاذه ومكتشفه نور الدمرداش، ومسرحية (111 كفر أبو مجاهد) التي كان صلاح منصور بطلها، وقد رشحه صلاح للدور بعد اعتذار محمد عوض، فلمع سعيد في المسرحية، وأخذه نور الدمرداش المنتقل إلى الإخراج التلفزيوني، ليلعب أول دور تلفزيوني له في مسلسل (هارب من الأيام)، ثم لعب أول دور سينمائي له في فيلم (الدخيل) الذي أخرجه نور الدمرداش أيضاً وإن كان قد تأخر عرضه بعض الشيء.
بعد عام من تعيينه في مسرح التلفزيون تم فصل سعيد صالح بسبب عدم استكماله مسوغات التعيين، وفرح سعيد بفصله من الخدمة الميري، لكي يعمل براحته دون أن يكون موظفاً يُجبر على أدوار لا يحبها، وبعد أن قام بالعمل في مسرحيتي (الحرافيش) و(القاهرة في ألف عام) التي أطلقها قطاع الفنون الاستعراضية التابع لمسرح الدولة، قرر سعيد صالح العمل في القطاع الخاص وبدأ تعاونه في عام 1967 مع فرقة الفنانين المتحدين بدءاً من مسرحية (البيجامة الحمراء) التي شارك فيها مع عدد من أبناء جيله على رأسهم عادل إمام، لكنها لم تلق النجاح المنتظر، والذي لقيته بعد ذلك مسرحية (هاللو شلبي) التي كرّس بها نجوميته كواحد من الوجوه الصاعدة التي أطلقتها (فرقة الفنانين المتحدين)، التي بدأت قبل ذلك بنجوم من جيل أسبق مثل فؤاد المهندس وعبد المنعم مدبولي، وكانت جاذبيته على المسرح أقوى لدرجة أن المنتج المخضرم سمير خفاجي يقول في مذكراته إنه قام بكتابة عقد مع سعيد صالح برقم أعلى من عادل إمام، حيث حصل سعيد على مبلغ 80 جنيهاً في الشهر، بينما حصل عادل إمام على مبلغ 70 جنيهاً في الشهر برغم أنه كان يقوم بأدوار سينمائية أكبر وأنجح.
لكن حركة الإنتاج المسرحي تأثرت بشكل كبير بعد هزيمة 1967، وانشغلت فرقة الفنانين المتحدين بالنجاح الكبير الذي حققته مسرحية (سيدتي الجميلة) لنجميها فؤاد المهندس وشويكار، فلم يهتم مؤسسها سمير خفاجي بالقدر الكافي بنجومها الشباب، وفي هذه الفترة تأثر سعيد صالح بتجربتين الأولى: الحالة السيئة التي وصل لها نجم المسرح والسينما الكوميديان إسماعيل ياسين واضطراره للعمل في أماكن لا تليق بموهبته ولا بتاريخه لكي ينفق على أسرته، والثانية: سفر صديق عمره وشريك نجاحه المسرحي في البدايات ماهر تيخه في عام 1970 إلى أمريكا، وبدأ سعيد نفسه يفكر في الهجرة في صيف عام 1971 وهو ما يعبر عنه قائلاً في أحد حواراته: "بقيت بطل مسرحي صحيح لكن بطل لا عنده بيت ولا عربية ولا فلوس ومش باين إن في أفق من أي نوع"، لذلك ترك القاهرة وسافر إلى الإسكندرية ليعمل في جراج سيارات يملكه نسيب سمير خفاجي، وبدأ يجمع أموالاً تعينه على الهجرة، إلى أن جاءه سمير خفاجي في بدايات عام 1971 وأخبره بأن فرقة الفنانين المتحدين بدأت التحضير لمسرحية (مدرسة المشاغبين) التي بدأ عرضها في يوليو 1971،ولم يكن يتصور سعيد صالح أنها ستنجح كل هذا النجاح الذي أطلق نجوميته المسرحية والسينمائية بصورة لم يكن يتخيلها.
حين تستعرض تفاصيل هذا المشوار، لن تستغرب أن يشير سعيد صالح طول الوقت إلى أن حياته كانت "ماشية دايماً بالبركة وبستر الله"، وهو ما جعله لا يلقي بالاً لأهمية التخطيط والتفكير الطويل قبل اتخاذ القرارات، بعكس ما فعله رفيق مشواره عادل إمام، فالإنسان ابن تجاربه وخبراته، ولذلك لم يكن يغضب حين يطلق عليه رفاق شلّته "الهلاهوطّة"، وهو تعبير سمعته أكثر من مرة من صلاح السعدني، لكني وجدت له تأصيلاً فيما كتبه أستاذنا محمود السعدني في كتابه الممتع (المضحكون) والذي صدرت طبعته الأولى سنة 1971، وكان قد نشر قبلها بعام على حلقات، قبل أن تنطلق نجومية سعيد صالح وعادل إمام من خلال (مدرسة المشاغبين)، ولذلك أفرد محمود السعدني في نهاية كتابه فصلاً للحديث عن المضحكين الجدد وقتها الذين وصفهم بالعيال، معتبراً أن سعيد صالح "أخفهم دماً"، قبل أن يواصل حديثه عنه قائلاً: "بل هو أخف دم مضحك على الإطلاق، وهو قادر على إضحاك الطوب بحركة أو بلفتة أو بإشارة من إصبعه الصغيرة، ثم هو لأنه نجا بمعجزة من عملية حشو الرأس بشعارات المثقفين ودعاوى الأدعياء، ولأنه نبت شيطاني فهو ابن الطبيعة، وهو ممثل لأنه خلق ليحترف هذه المهنة، وهو يشترك مع علي الكسار في ميزة هامة هو أنه لا يتعمد التمثيل، ولكنه يتحرك على المسرح كما يتحرك في الشارع ويتكلم بين شلة من الأصدقاء المقربين، إنه الولد الأهبل المعبوط المنشرح الصدر المفكوك زراير البنطلون صاحب الغفلة الحلوة والمبتهج لكل ما يحدث في الحياة من أفراح وأتراح ومصائب سوده وبلاوي متلتلة، ولو تعقل سعيد صالح قليلا ولو انضبط قليلا في حياته وسلوكه، لو ادخر كل جهده وكل قوته للعمل لانفجر مثل قنبلة زنة ألف رطل"، ولم يكن محمود السعدني يرجم بالغيب حين كتب هذا الكلام الذي تحقق بحذافيره، بل كان يستقرئ مستقبل سعيد صالح من خلال معرفته بشخصيته المتمردة النزقة التي جعلته يتمرد حتى على نجاحه في (مدرسة المشاغبين) ليبحث عن طريق فني آخر قاده في النهاية إلى طريق المسرح السياسي الذي وجد فيه نفسه وأضاع جمهوره.
...
نكمل الأسبوع القادم بإذن الله