فلسطين... كالقيامة ذات يوم
"أتظنّ أنّك قد طمست هويتي
ومحوت تاريخي ومعتقداتي
عبثاً تحاول
لا فناء لثائرٍ
أنا كالقيامة ذات يوم آتٍ".
(مهذل مهدي الصقور)
إنّ الكيان الإسرائيلي قد فشل في مواكبة مواطنيه وخاصة الأسرى، من المرجّح أن يتمّ أكله من الداخل، وإعادة تنظيم مساحته وموارده وطاقته وأفكاره خدمةً لأهداف الفلسطينيين. لذلك يستعمل الإسرائيلي في حربه ضد غزّة بعد معركة طوفان الأقصى تكتيك الأرض المحروقة، ولكنّه حتماً لم يدرك أنّ فلسطين هذه الأرض، لا توجد فقط في حدود الجغرافية بل توجد في رحاب الوعد الرباني، وفي أفق الفلسطينيين أنفسهم.
قد يكون مثل هذا المصير "الأرض المحروقة" روتينياً بالنسبة للفلسطينيين الذين قضوا وقتاً طويلاً على الأرض لأنّها ببساطة أرضهم قبل الانتقال إلى المثال/ الجنة، والتي هي الأرض الموعودة. كذلك يبدو مصير "الأرض المحروقة" روتينياً بالنسبة للإسرائيلي تعبيراً عن يأسه واستيائه.
لطالما كانت الشدّة تولّد الشدّة، فما على الإسرائيلي إلا الخوف من رجال قد صدقوا ما عاهدوا الله عليه؛ يذهبون إلى الموت بنفوس راضية مطمئنة، حيث إنّ الحرب بالنسبة للإسرائيلي تعني وضع أكبر إمكانية للنجاة حيّز التنفيذ، في حين أنّ الحرب تعني للفلسطينيين الاستنزاف الكامل للروح والجسد لبلوغ مرتبة الشهادة.
هذه المفارقة المتأرجحة بين الوجود والعدم لا تعني تغلّب أحد طرفيها على الآخر بل تعني مزيداً من المفارقات العجائبية والسحرية؛ فالعدم نفسه عند الفلسطينيين بعثاً للخلود والراحة لاحقاً، إذ يتمّ تدريب الفلسطيني منذ صغره على هذه المعادلة، وهي معادلة أخلاقية نشأت من القانون الرباني، في حين أنّ معادلة الوجود والحياة أخذت شرعيتها من القانون الوضعي، لذلك هي تبرّر نفسها في كلّ مرّة بظروف مختلفة وبنسبية فارقة، فكثيراً ما يتمّ العبث بها خدمة للمصالح تحت ذريعة القانون. فالقانون الإنساني يكون نتاجه عند المجتمع الدولي عبثاً وعبئاً أخلاقياً في حين أن القانون الرباني يكون عند الفلسطيني بعثاً وخلوداً.
لم يفهم الإسرائيلي بعد، ولا المجتمع الدولي، أنّ الفلسطينيين يُخلقون بحياة مؤجلة ويعيشون بيننا شهداء مؤجلين
لم يفهم الإسرائيلي بعد، ولا المجتمع الدولي، أنّ الفلسطينيين يُخلقون بحياة مؤجلة ويعيشون بيننا شهداء مؤجلين لتحريك ضمائرنا، وهم على أيّ حال مستغنون عنّا كفعل مستقلّ عن خيانتنا لقضيتنا، فهم لهم المكافأة والوعد في حياة أخرى مرضية وسعيدة. لو فهم الإسرائيلي تلك المعادلة لأوقف الرصاص والإبادات.
إنّ الشأن المدني مُفرز طبيعي للحرب؛ "لا خوف عليهم ولا هم يحزنون". لذلك من المستحسن أن تتوقّف الناس عموماً والصحافة خصوصاً عن بثّ الروح الانهزامية والتعاطف السلبي لا الإيجابي. فهناك ميزة يتقدمّ بها مقاتلو غزة على الكيان وهي "المجهول"، لأنّه حتى الآن لا يعرف الكيان وحلفاؤه عدوه، ويستخدم الدعاية الحربية الواهمة عن القدرات العسكرية وبرامج غسل العقول في مشروعية الحرب لرفع معنويات جهته ولتحطيم إرادة خصمه. لذلك أحسن ما يمكن فعله هو ألا ندخل في لعبته، بل نلعبها معه هي ذاتها عن طريق "المجهول" الذي يمثّل أفضل نقطة لغزة.
من اللافت أنّه ما عاد المؤمنون بثقافتنا الإنسانية العظيمة الواهمة بحاجة لأن يسألوا عن مشروعية حربٍ ما، لأنّ ماكينة التبرير باتت متوفّرة للجميع، وبإمكان أيّ منّا استعمالها، ودونما حاجة لقراءة التعليمات وشروط الاستخدام! بل ومن المجاز لأيّ منّا أن يكون مجرم حرب بالأخلاق والقانون الوضعي ليكون بطلاً سياسياً أو عسكرياً بالمعيار الوضعي أيضاً!
في النهاية، لقد تمّ تحويل الفلسطينيين إلى وضع لا يختلف كثيراً عن العبودية، وعندما يتمّ حرمان العبيد من كلّ حقّ آخر، لا يصير في إمكانهم اللجوء إلّا إلى القانون الرباني المتبقي لهم من وعدٍ وحقّ إلهي: "طوفان الأقصى". كلّ ما هو مطلوب هو أن يتمّ توجيه ضربة قوية للكيان الصهيوني، وليس من المستبعد على الإطلاق أن تأتي تلك الضربة من انتفاضةٍ جديدةٍ في العالم العربي. هذا هو السبيل الوحيد للمضي قدماً بالنسبة للشعوب العربية.