فلسفة حافظ الأسد ورفعت والبهلموطي
أحلى شيء في بيت الأسد أنهم عائلة متكاملة من حيث الذكاء والعبقرية. قلما تجد بينهم واحداً ذكاؤه جيد فقط، وآخرَ فهيماً بنسبة (نص على نص)، وثالثاً غبياً؛ أو كما يقول أهل حلب (طَشَنة).. الرئيس من بيت الأسد رئيس عالمي، ودكتورهم دكتور مع شهادة بورد، وعالم الرياضيات عندهم عالم رياضيات خارق، ولاعب الكرة مختص بقطع الكرة، والتمرير، والـ خود وهات، والأوفر، والدبل كيك.. وحتى المجرم من آل الأسد تراه مجرماً مُعْتَبَراً، لا يقتل خمسة أو ستة أشخاص ويدير ظهره ويمشي، أقل شيء عند المجرم الأسدي أن يعمل مجزرة.
طرح رفعت الأسد، في خطابه أمام المؤتمر القطري السابع لحزب البعث العربي الاشتراكي الذي انعقد في كانون الأول/ ديسمبر 1979، فكرة أكثر عبقريةً مما تحتمله عقولُ البشر العاديين.. أراد أن يوصل رسالة للرفاق المجتمعين ملخصُها أن كل حزب نضالي يحتاج مجرم كبير، فقال، حرفياً: (ستالين، يا رفاق، أنهى حياة عشرة ملايين إنسان في سبيل الثورة الشيوعية، واضعاً في حسابه أمراً فقط هو: التعصب للحزب ولنظرية الحزب، ولو أن الرفيق لينين كان في موقع ستالين وظرفه لفعل مثله، فالأمم التي تريد أن تعيش، أو أن تبقى، تحتاج إلى رجل متعصب)!
لن أخوض في تفاصيل المجازر التي ارتكبها الرفيق المناضل رفعت - تطبيقاً لنظرية "الحزب القائد والمجرم الكبير" - فبرأيي أن الإجرام الكبير ليس دليل عبقرية، ولكن تبين لنا أن الرجل، رفعت، مبدع في مجال العلم والتحصيل العلمي؛ تصوروا أنه سمع، ذات مرة، بأن أحد أصحابه، من حملة الماجستير في أحد الاختصاصات، معتكف في بيته منذ ستة أشهر، لأنه يحضّر للدكتوراه، فاتصل به وأشبعه مسخرة، قال له: ما بعرف ليش واحدكم بيقعد وبيسكّر على حاله الباب وبيضيّع وقته في قراية الكتب والتحضير للدكتوراه، ولاك أنا، وحقُّه للرب، كنت في البرية، وإذ بيجي واحد من جماعتي وبيقلي (مبروك يا أبو دريد أنت نجحت في الدكتوراه!) ومن يومها ما حدا بينادي لي غير: يا دكتور.
مضى أكثر من سنة على هذه الحادثة لم يتعرض الرفيق بهلموطي خلالها لأية مساءلة، فازدادت ثقته برفاقه الذين ينكت أمامهم، وقال لنفسه: أيه.. والله العظيم لسه الدنيا بخير
في الثمانينات؛ كتب الدكتور إسكندر لوقا كلمة خطابية لكي يلقيها حافظ الأسد في افتتاح مهرجان الاتحاد الرياضي العام، يقول فيها: إني أرى في الرياضة حياة.. وعينك يا صديقي لا ترى إلا النور، في اليوم التالي سرت العبارُة التي ابتدعها الدكتور إسكندر في سورية، سريان النار في الهشيم، ودرجت مدرجَ الحكم والأمثال، ولم يبق طليعي، أو شبيبي، أو عضو فرقة حزبية، إلا وجلس يترنم بها، على أساس أنها من الاختراعات الفلسفية النادرة لهذا القائد (المُلْهَم).. ولم يترك الخطاطون نوعاً من الخط الرقعي أو الديواني أو النسخي أو الثلث إلا ودونوا العبارة به على الأطباق الكرتونية، والأقمشة البيضاء، والحيطان، ودبكت عليها الفرق الشعبية، وزغردت لأجلها الرفيقات، والكل يصيح ويهتف إن الرئيس الأسد يرى في الرياضة حياة.
لا ندري إن كان الرفيق "بهلموطي المعتَّر" يحب الرئيس حافظ الأسد كما يدعي، فأثناء تواجده في فرع الحزب، أو فرع الطلائع، أو فرع الشبيبة، أو في زيارة أحد ضباط الأمن، يحلف أغلظ الأيمان على أنه يفدي القائد بروحه، وأنه لا يتخيل الحياة في هذا القطر الصامد من دونه.. ولكن بهلموطي المعتر، عندما يلعب بالطرنيب، ويكون الحظ بورق الشدة مواتياً له، ينقلب إلى إنسان ظريف، ومرح، يقوم ويقعد ويلقي عبارات تجعل الحاضرين يفرطون من الضحك..
في مرة من المرات، بعد خطاب حافظ الأسد الرياضي، ربح الرفيق بهلموطي البرتية (اللعبة)، فوقف، وصار يفقش بأصابعه يغني (إني أرى في الرياضة حياة)، ويمط كلمة حياة ويقفلها على طريقة المطربين الكبار.. وبعدما عَمَّ المرح في السهرة توقف وقال:
- بس يا خيو هالعبارة ضعيفة. يحرق حريشه إسكندر لوقا شقدُّه بهيم، يعني ما لقى أحسن من هالعلاك؟
في الحقيقة أن الرفيق بهلموطي كان يريد أن يرفع معدل الاستهزاء، فيقول إن العبارة (سخيفة)، ولكنه خاف أن يُطَرْنِب، أثناء البرتية التالية، لأحد خصومه (آس البستوني)، فينزعج منه الخصم، ويكتب بحقه تقريراً أكبر من ملحفة اللحاف، يرسله به إلى حيث يقيم خبر إنَّ المحذوف.
فجأة.. تجرأ بهلموطي وقال، محاولاً الاحتفاظ بطريق العودة: يا خيو "إني أرى في الرياضة حياة" عبارة سخيفة، ما كان لازم رئيسنا المفدى يقولها.
- ليش سخيفة؟ (سأله أحدهم).
أجاب بهلموطي: لأنه من غير المعقول أن يقول رئيس جمهورية طويل عريض في مؤتمر للرياضيين: إنني أرى في الرياضة مَمَاتْ! يعني تحصيل حاصل لازم يقول: حَيَاة. صدقوني يا جماعة الرياضة لا علاقة لها بالحياة والممات، أنا أعرف شاباً رياضياً، عندما يمشي على الأرض يقفز قفزاً، مثل السعدان، ولكن، فجأة، لطشته جلطة قلبية، فعض لسانه ومات، بينما جَدّي، الله يرحمه، عاش 105 سنوات، ولا بحياته لعب رياضة، ولم يكن يمشي أكثر من خمسين متر في اليوم، وطول النهار داحش نربيش الأركيلة في فمه وعم يغب دخان. أيه. الله يرحمك يا جدي. كان يدخن مثل سيارة فيها طرمبة الزيت مبعوجة.. وآخر عشر سنوات من حياته مرض، وتسطح في الفراش مثل المورينة (قطعة خشب طويلة)، وكل شهر أو شهرين تولول عليه جدتي، ونلتم نحن أولاده وأحفاده في داره، ونديره ع القبلة، ونصلي عليه، ونقرأ له آيات من القرآن، وبعد شي ساعة يتنفض، ويفتح عينيه، ويقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. خير يا ولاد؟ ليش إنتوا قاعدين هون؟
ويوم مات جدي، اجتمعنا في داره، وصرنا نتباوس، ونتبادل التهاني، لأن موته كان، في هذه المرة، صحيحاً، ولا رجعة عنه.
خاتمة:
مضى أكثر من سنة على هذه الحادثة لم يتعرض الرفيق بهلموطي خلالها لأية مساءلة، فازدادت ثقته برفاقه الذين ينكت أمامهم، وقال لنفسه: أيه.. والله العظيم لسه الدنيا بخير.
بعد سنة رشح بهلموطي لعضوية فرع الحزب، وتبين له أنه مضروب بالتقرير الأمني.. وبعدما سأل واستفسر وبحبش وجد أن من جملة التهم المنسوبة إليه أنه غير مؤمن بمقولة السيد الرئيس "إني أرى في الرياضة حياة".
ومن يومها، أقلع الرفيق بهلموطي عن التدخين، ولعب الورق، وصار يمارس الرياضة في شوارع المدينة وأزقتها، متقصداً أن يُري نفسه لكتاب التقارير. وعندما يسأل عن سر هذه النقلة النوعية في حياته يقول: لازم كلنا نعمل رياضة. ما سمعتوا شو قال السيد الرئيس؟ إني أرى في الرياضة حياة.