فوائد الحواجز الأمنية الحقيرة
(الجزء السادس من حكاية المعلم أبو أحمد ورحلته إلى حماه)
كان صديقي، معلم المدرسة أبو أحمد، الذي يعيش في مدينة إدلب، يحكي لي، عبر الواتس أب، عن مغامرته العجيبة في الذهاب من إدلب إلى حماه، قبل سنوات، لقبض رواتبه المتراكمة من مديرية التربية هناك.
قلت له: اسمح لي بمقاطعة سريعة. أنا اكتشفت الآن أن معظم اختراعات الغرب الإمبريالي سخيفة، وضارة، فلو كنت تعيش في السويد، مثلاً، لكان راتبك نزل في حسابك البنكي، في اليوم الأول من كل شهر، ووقتها تبقى أنت في دارك، مرتدياً البيجاما، رافعاً ساقيك على طرف الصوفاية، مبسوطاً، طرباً، تغني: ما أشربْ شنينة، أبوس رب الشاي ويلي.
قال لي: هذا شيء جميل، فأين وجه الضرر؟
قلت: الضرر هو في القضاء على الحكايات. مضى علينا، أنت وأنا، ثلاثة أيام ونحن نتواصل، وتحكي لي عن التحضيرات، والاحتياطات التي تقوم بها، وأمثالُك، للسفر إلى حماه، وعن الحواجز الأمنية التي يقف عليها أناس ينظرون إلى المسافرين بحقد وكراهية، والمسافرون يبادلونهم المشاعر ذاتها، فلو كان راتبك ينزل في حسابك لما حصل كل هذا. وبالمناسبة، أخي أبو أحمد، قبل أيام استضافني ملتقى الأدباء السوريين في مدينة مرسين، وتحدثنا عن الأدب بشكل عام، والأدب الساخر بشكل خاص، وزعمتُ، أنا محسوبك، أن الأدب الساخر صنو المجتمعات الديكتاتورية المتخلفة، ولنفرض أن أديباً ألمانياً ذا نَفْس مرحة، ونَفَس ساخر، أراد أن يسخر، بالله عليك يسخر من أيش؟
قال أبو أحمد: من هذه الناحية الحق معك. المهم، أخبرتك، قبل أن نتوقف، أننا غادرنا إدلب في الميكروباص، وكنا قد استفسرنا من السائق أبو خليل، عن أماكن تواجد الحواجز، فقال لنا: اطمئنوا. لن يوقفنا حاجز قبل مضي ساعة ونصف.
فاطمأنينا، ولم يكن أحد يتوقع أن يستوقفنا حاجز طيار على بعد ثلاثة كيلومترات من إدلب، بالقرب من معمل الكونسروة.
ضحك أبو أحمد ضحكة مجلجلة، وقال لي: الله يسامحك يا أبو مرداس. من أين يأتي الشبيحة؟
قلت: هو حاجز للثوار بالطبع.
قال: ثوار؟ أنت يا أبو المراديس تعرف البئر مما حصل في منطقتنا وغطاه، ومع ذلك تقول ثوار؟
اعتذرت لأبو أحمد عن هذا السهو، وقلت: قصدت أن الحاجز مستحيل أن يكون لجماعة النظام والشبيحة والنبيحة.
قال: نعم. كان تابعاً لفصيل مسلح يتزعمه شاب سرسري، ملقب بـ (جولاماصَّا)، شارك في المظاهرات السلمية مع بداية أحداث 2011، ثم زعم أن الله تعالى قد هداه إلى الحق، وألهمه أن يمضي إلى الجهاد، فأطلق لحيته، وارتدى ثوباً باكستانياً، وتسلح مع مجموعة من رفاقه (التائبين مثله)، وخرجوا من مدينة إدلب باتجاه منطقة جبلية تقع إلى الجنوب من قرية "عرب سعيد"، وصاروا يكسبون رزقهم الحلال من طريق إدلب حارم..
قلت: عفواً أخي أبو أحمد. عندي سؤال.. طريق حماه يذهب من منطقة المحريب شرقي إدلب، بينما معمل الكونسروة في الغرب، أي على طريق إدلب حارم.
قال: صحيح، ولكنني لا أريد أن أوجع رأسَك بالتفاصيل، وسأكتفي بالقول إنه لم يبق واحد من الطرقات التي تعرفها أنت على حاله.. وبما أنك من هواة الأشياء الطريفة أضف إلى معلوماتك أن طريق حماه (الجنوبي) أصبح، على أيام الرجل الغريب المدعو "الجولاني" يمر من عفرين (شمالاً).
قلت: طيب، عندي سؤال آخر. أنت تقول إن جولاماصا كان يكسب رزقه من الطريق، هل تعني أنه افتتح حاجزاً أمنياً على حسابه؟
قال: نعم، ولكن حاجزه ليس ثابتاً، وكثيراً ما كان ورفاقه يلحقون سيارة يشتبهون بها على الموتوسيكلات.
قلت: أيوه. يعني يشتبهون بأن فيها شبيحة محسوبين على النظام.. صح؟
ضحك أبو أحمد ضحكة مجلجلة، وقال لي: الله يسامحك يا أبو مرداس. من أين يأتي الشبيحة؟ جولاماصَّا كان يلاحق الناس الضالين فقط.. يا أخي، الطريق يمر عليه أشكال وألوان من الأهالي، قد يكون بينهم رجل مارق، يظهر مروقه من طريقه ارتدائه الثياب، أو حلاقة شعر الرأس والوجه، أو امرأة لا ترتدي ثياباً محتشمة، والناس، كما يقول المثل، يريدون سلتهم بلا عنب، لذلك يتقون شر جولاماسا، ويعطونه بعض النقود، ويهمون بالمغادرة، ولكن هذا لا يرضي جولاماسا، وسرعان ما يلقم الروسية ويطلب من السائق أن يتوقف، ووقتها يلقي على الركاب خطابة لا تقل بلاغة عن خطابات أمناء الفريق البعثية أيام زمان، يقول فيها: أريد منكم يا إخوتي ألا تذهبوا بتفكيركم إلى أنني آخذ منكم رشوة، مثلما يفعل الواقفون على حاجز النظام النصيري المجوسي، فتلك رشوة بالفعل، وأما أنا والإخوة الذين معي، فوالله إننا نشتري بالأموال التي نأخذها منك بواريد ورشاشات وضروباً (الضروب: هي الطلقات) لأجل الجهاد، وتخليص بلادنا من عصابة النظام النصيري المجوسي. الله تعالى لا يسامحنا إذا صرفنا قرشاً واحداً من هذه المصاري على ملذاتنا الشخصية.
قلت: يجب أن يدوي جوف الميكرو بالتصفيق.
قال أبو أحمد: نعم. وبالهتافات التي تشيد بقيادته الحكيمة. المهم، كان حظ جولاماصَّا، عندما وصلنا نحن في ميكرو أبو خليل، جيداً جداً، فبمجرد ما فتح الباب رأى رجلاً وامرأة يركبان في المقعد الأول متجاورين. سأل الرجل: من هذه الامرأة؟
- هذه زوجتي.
- معك إثبات أنها زوجتك؟
ضحك الرجل رغم غرابة الموقف وقال: أنا متزوج هذه المستورة من أربعين سنة، وطول عمري أمشي معها، في كل مكان، ولم يخطر ببالي أن يسألني أحد في يوم من الأيام عن إثبات أنها زوجتي، لو كنت أتوقع ذلك لكنت أخذت عقد النكاح إلى مكتبة الدويدري، وسحبت عليه عشرين نسخة، ووضعت في جيب كل جاكيت أو قميص أو بنطلون نسخة مجلدة..
طبعاً هذا الحكي لم يعجب جولاماصا. قال للرجل: هذا الكلام، في دفاتري، غير قابل للصرف. وحتى ما ينشف ريقنا من الأخذ والعطي بالكلام. أمامك عدة خيارات. إما أن يرجع الميكرو بك إلى الدار، وتحضر لنا عقد النكاح، أو تنزل أنت وهذه المستورة هنا، ويتابع الميكروباص طريقه، أو أن تترك المستورة جالسة في هذا المقعد، وتركب أنت في مكان آخر. لأن بقاءها بجانبك سيفتح عمل الشيطان الرجيم.
قلت لأبو أحمد: بالفعل هذه محنة.
قال أبو أحمد: نعم. وإذا سمحت لي باستراحة قصيرة، لأحكي لك ما حصل.
(للسالفة تتمة)