فوائد العيش في البلاد الديكتاتورية الحقيرة
أخبرني صديقي أبو أحمد الذي يتواصل معي من إدلب عبر الواتس أب، أنه، بعد رحلته العجيبة من إدلب إلى حماه، ذهاباً وإياباً، خرج بمجموعة من الخلاصات المهمة.
سألته: مثل ماذا؟
قال: الخلاصة الأولى، أن الرشوة ظاهرة شاذة، تدل على الفساد، والحقارة، والقذارة، وقد ذكرتُ لك سابقاً أن الحواجز الأمنية التابعة للنظام وحكومة الأمر الواقع في إدلب، تسفُّ وتنزل إلى مستوى تَشليح الركاب الذين يمرون بها. ولكن تخيل لو أن عناصر الحواجز لا يرتشون، لا سمح الله! صدقني لو أن حاجزاً واحداً لا يرتشي لما استطعنا أن نغامر بالذهاب إلى حماه ثم نعود منها سالمين. هل تحب أن أحكي لك بعض الأشياء التي تدل على صحة هذا الاستنتاج؟
قلت: يا ليت.
قال: في رحلة الذهاب إلى حماه؛ طمأننا السائقُ الشجاع أبو خليل إلى أن كافة الحواجز ترتشي، على لَمّ الفراش، حتى حاجز "الطزطيزة" الذي يناوب فيه أحياناً العنصر (الرَقَّاص)، يمكن التفاهُم معه، فإذا رَكِبَ الرقاص رأسَه، وتَنَّح مثل الحمار القبرصي، نحن نرفع له مبلغ الرشوة، فيقبضها ويهمد مثلما يهمد الحمار "المعنطز" بعد أن يمتلئ بطنه بالتبن والشعير وقشور الجَبَس.. ولكن رحلة الإياب كانت حافلة بالخوف والقلق. فالعم أبو كمال، الذي حدثتُك أنه غامرَ باصطحاب ابنه الشاب "أدهم" معه، كان يحتضن ابنه، طوال الطريق، وفمه لا يتوقف عن الحركة، كأنه ماكينة مزيتة.
قلت له، في إحدى المرات: لاحظتُ يا عمي أبو كمال، أن فمك كلما غادرنا أحد الحواجز يبدأ بالحركة ويظل يتسارع حتى نقترب من حاجز آخر... بالله عليك أخبرني ماذا تقول.. ضحك وقال لي: قد لا تصدق إذا قلت لك إنني أدعو الله أن يُلهم عناصر الحاجز التالي أن يقبلوا رشوة مني مقابل تركنا نعبر بسلام!
قلت لأبو أحمد: والله قوية. وأنا أريد أن أذكِّرَك أن الموظف الدنيء، في أوائل حكم حافظ الأسد، كان يبالغ في الاحتياطات التي يتخذها حتى يتمكن من إخفاء الرشوة التي يتلقاها، ومع مرور الزمن صارت الأمور تُلْعَب على المكشوف، بحيث يدخل الموظف المرتشي في الصباح إلى مكتبه، وقبل أن يفتح الشبابيك للتهوية، يفتح الدُرْج الخاص بتلقي الرشاوي، والمواطن الذي يريد أن يرشوه يدخل مباشرة باتجاه الدرج، ويُسقط فيه الأوراق النقدية كما لو أنها أوساخ تُرمى في سلة المهملات. وكان أحد الموظفين الكبار في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون أرفعَ مستوىً من الموظفين ذوي الدروج، فقد اشترى حقيبة سامسونايت، وصار يفتحها في الصباح، ويدخل عليه الموظفون في قسم (الإنتاج) وكل واحد منهم يحمل بيده أمر الصرف الذي يحتاج إلى توقيع، ويحمل باليد الأخرى المغلف الممتلئ بالمال ويضعه في السامسونايت. والغش في هذه الحالة غير ممكن، لأن صاحبنا المسؤول، بعد مغادرة الرجل الذي وضع الرشوة في السامسونايت، يمكنه أن يجس المبلغ بيده، على طريقة (جَسَّ الطبيبُ لي نبضي)، أو يقفل الباب من الداخل بعد خروج الراشي، ويفتح المغلف، ويعد المبلغ، فإذا وجده أقل من المطلوب، أو المتوقع، يعرقل له أمر الصرف القادم حتى يدفع الفروقات وهو صاغر. وعندما عُمّم أسلوب الرشوة على مختلف الموظفين في سورية، بلغت الوقاحة بأحد رؤساء مجلس الوزراء السوريين، وهو أعلى سلطة إدارية في البلاد، أن قال، عندما طُلب منه أن يزيد أجور الموظفين: تريدوننا أن نزيد الرواتب وتتكبد الخزينة مبالغ طائلة كُرمى لبضعة موظفين (حمير) يرفضون أن يقبلوا الرشاوى ويحسّنوا بها معيشتهم؟!
قلت: على كل حال، يا أبو أحمد، الحديث معك ممتع. وأظن أن لديك خلاصات أخرى يمكن أن تحدثني بها، فنعرضها على قرائنا الأكارم في مدونة "إمتاع ومؤانسة" في وقت لاحق
قال أبو أحمد: والله إنك قد أغنيت الموضوع إغناء لا مزيد عليه.
قلت: وما هي الخلاصة الثانية؟
قال أبو أحمد: إن اختراع الأجهزة، والآلات، وتطوير أداء مؤسسات الدولة بواسطة (الأتمتة)، أشياء عظيمة، تهدف إلى إراحة الإنسان، وتوفر عليه مشاوير ومتاعب كثيرة.. ولكن، برأيي، لو كانت حياتُنا - نحن السوريين - (مُؤَتْمَتَة)، أي تقوم الأجهزة والأدوات بخدمة المواطنين وتوصلهم إلى مبتغاهم بسهولة، لكنا تعرضنا لخسائر كبيرة.
قلت له: هذه فكرة مثيرة، ولكنها تحتاج إلى توضيح وأمثلة.
قال: على رأسي.. يا سيدي، أنا، بعد تلك الرحلة الملحمية (إدلب- حماه- إدلب)، مكثتُ بضعة أيام أفكر، وأتساءل: يا ترى هل الأتمتة خير مطلق؟ أم أن فيها أشياء ضارة؟
ولكي ينجلي الأمر أمامي، قلت لنفسي: ما الذي يمكن أن يحدث لو أنني كنتُ، بصفتي مواطناً، أمتلك حساباً مصرفياً، ووزارة التربية في سورية تودع فيه راتبي شهرياً، على غرار ما يحصل في الدول المتطورة؟.. وكان الجواب أنه ليس من مصلحتي أن أكون مرتاحاً في حياتي، مثل المواطن الأوروبي.
قلت: لماذا؟
قال: لأن نظام التغذية عندنا مختلف. الأوربي يأكل أشياء قليلة، وخفيفة، ويستخدم السكين والشوكة، وعندما يمضغ اللقمة لا يكاد يفتح فمه، ويستحيل أن تجد أوروبياً جالساً على ركبة ونصف، وبيده الخاشوقة يغرف بها (يَشْرُق) ويأكل، أو يقطع من رغيف الخبز ويغمس (يحشّ).. وأما السوري فيأكل ما لا يحسب الحاسب من اللحوم والدهون والنشويات ناهيك عن الخبز والطبيخ والقلوبات المقلية، ومع أن تناول الحلويات يثقل على المعدة، نحن نُتبع الزَفَر بالحلويات، وأنت تعرف المثل الذي اخترعناه ذات يوم ويقول (في البطن خلوة لا يملؤها إلا الحلوى).. وأنا سمعت من بعض الأصدقاء الذين أجبرهم نظام الأسد على الهجرة، أن أمعاء الخروف ممنوع بيعها وتداولها في مختلف البلدان الأوروبية، لأنها ضارة بالصحة، وأما نحن فإن الأسرة التي تطبخ (قشة خروف) تفرح فرحاً شديداً، وتقيم احتفالاً يصل إلى مستوى قرع الطبول، وترغلة المزامير، والدبكة والزغاريد وإطلاق النار في الهواء..
قلت ضاحكاً: خلاصتك تقول إن فوائد التعب، والشنططة، والمرمطة، والركض، والغبرا، وقلة القيمة، كثيرة جداً، وأبرزها أننا نحن السوريين نحيفون ضامرون رشيقون على الرغم من كثرة المأكولات الضارة التي نلتهمها؟..
قال: نعم.
قلت: على كل حال، يا أبو أحمد، الحديث معك ممتع. وأظن أن لديك خلاصات أخرى يمكن أن تحدثني بها، فنعرضها على قرائنا الأكارم في مدونة "إمتاع ومؤانسة" في وقت لاحق.
قال: نعم. بكل سرور.
(للسيرة تتمة)