فيلم أوبنهايمر... صورة مخيفة للغطرسة الإنسانية
مع كلّ الضجيج الذي يُحيط بمبدع الملاحم التناظرية، كريستوفر نولان، أو كما أسميه شخصياً "المتطرف في محاكاة العقل والواقع"، يعود إلينا من جديد، وهذه المرّة، مع إعادة إنشاء انفجار القنبلة الذرية الأولى في التاريخ.
فيلم "أوبنهايمر"، سيرة ذاتية تحكي عن حياة أبي القنبلة الذرية، المدير العلمي لمشروع مانهاتن روبرت أوبنهايمر. تغطي حبكة الفيلم أربعة عقود من حياة العالم كما تغطّي جميع الأحداث الأكثر أهمية في سيرته الذاتية، بما في ذلك اختبارات القنبلة الأولى وجلسات الاستماع المغلقة في مجلس الشيوخ، والتي اتُهم فيها الفيزيائي بالتعاطف مع الشيوعيين.
"أوبنهايمر"، هو أطول فيلم في مسيرة نولان المهنية، بميزانية 100 مليون دولار، ويمتد إلى ثلاث ساعات، وهذا ليس مفاجئاً، لأنّ الأساس الأدبي للفيلم كان كتاب "بروميثيوس الأميركي: انتصار ومأساة روبرت أوبنهايمر"، وهو عمل ضخم ومفصّل، من 800 صفحة، عمل عليها مؤلفاها كاي بيرد ومارتن شيروين.
لم تكن الصورة خالية من العديد من النتائج الأسلوبية، إذ تمتّ كتابة نص "أوبنهايمر" بصيغة المتكلم، وفي الفيلم نفسه، تتناوب اللقطات الملوّنة مع اللقطات بالأبيض والأسود لتقليد التسلسل الوثائقي لتلك السنوات. كما تظهر حياة "أوبنهايمر" بالألوان، ومشاهد جلسات الاستماع بالأبيض والأسود، ما منح الفيلم مقامات وثائقية.
رعبٌ وجوديٌّ حقيقي
"أوبنهايمر"، هو صورة معبّرة عن حقبة بدأ فيها الشخص باكتساب قوة لا يستطيع حتى السيطرة عليها، نجحت أفلام قليلة في بلورة هذه الفكرة والتعبير عن قلق الحياة في عالم بدأت فيه فكرة صغيرة في تغيير حياة البشرية.
يتكوّن الفيلم بالكامل تقريباً من الحوارات، هناك مناوشات أكاديمية أمامنا بين علماء الفيزياء، محادثات عالية الحدّة بين السياسيين الأميركيين والقادة العسكريين حول الحرب العالمية الثانية ومصير البلاد في حالة انتصار النازيين، مناقشات موجزة لكنها مكثّفة في جلسات الاستماع في محاولة لاستبعاد الشائعات والتكهنات لتحديد ولاء هؤلاء العلماء للولايات المتحدة، وهنا بالتحديد نادراً ما يبطء المخرج ليدع شخصيته التي يلعبها كيليان مورفي، تفكّر حقاً في شيء ما.
تظهر حياة "أوبنهايمر" بالألوان، ومشاهد جلسات الاستماع بالأبيض والأسود، ما منح الفيلم مقامات وثائقية
أكد المخرج، كريستوفر نولان، مرّة أخرى على نهجه غير الخطي للفيلم كما فعل كثيراً في حياته المهنية، متخذاً مقاربة غير خطية للقصة، إذ جعلها تقفز بدقة وسلاسة بين اللحظات الرئيسية في حياة أوبنهايمر، من اليوم الذي التقى فيه زوجته المستقبلية، إلى لحظة وصوله معهد الدراسات المتقدمة في برينستون، وبالطبع إطلاق مشروع مانهاتن الذي سيمنح الحياة للقنبلة الذرية الأولى.
الشخصية الرئيسية غير مكشوفة
طوال الفيلم، يظهر للمشاهدين بطل من غير المحتمل أن يتمكنوا من وصفه بطريقة ما بعد مشاهدته، إنه روبرت أوبنهايمر، الرجل الذي ابتكر أسلحة نووية، وهنا يبدو أنّ سيرته الذاتية تنتهي. في بداية الفيلم، يبدو أنه عالم مجنون يهتم بالعيش في النظريات أكثر من الواقع، وهو نوع مألوف إلى حدّ ما.
يمكن مقارنة "أوبنهايمر" بفيلم "لعبة التزييف"، حيت بدا أنّ الممثل بيندكت كامبرباتش هو نفس العالم تقريباً، ولكن على عكس شخصية كيليان مورفي، فإنّ شخصية "أوبنهايمر" تشع حرفياً بالعبقرية وأثارت اهتماماً أكبر بكثير.
واحد اسمه العالم روبرت أوبنهايمر، والآخر اسمه العالم آلان تورنغ، واحد انضم لمشروع مانهاتن والآخر انضم لمشروع بريطاني سرّي. واحد اخترع القنبلة الذرية التي غيّرت حياة البشرية بعد الحرب العالمية الثانية، والآخر اخترع آلة "كريستوفر" التي استطاعت فك التشفير المستحيل لآلة الألمان المسماة "إنيغما". واحد هو الأب الروحي لمعادلات الأسلحة المُصنّعة إلى يومنا هذا، والآخر يعتبر إلى اليوم الأب الروحي لفكرة البرمجة والذكاء الاصطناعي. واحد اتُهم بالتعاطف مع الشيوعيين، والآخر اتُهم بسبب ميولاته الجنسية. واحد كان شعلة الحرب، والآخر ساعد على إنهائها، وكلاهما سُمّي بالعبقري.
فيلم مثير وجميل ورائع للغاية، لكنه يُشعر بالإحباط
أعتقد أنّ المقارنة المنطقية التي تحترم ذكاء المشاهد، هي بوضع هذين الفيلمين على قدم المساواة جنباً إلى جنب. كلاهما سيرة ذاتية، كلاهما عن الاختراعات التي غيّرت البشرية، كلاهما عن أحداث مصيرية طُبعت في سجل التاريخ. والأهم، أنّ كليهما فيلمان عظيمان.
التقط التصوير السينمائي الرائع كلّ شيء، بدءاً من تساقط الثلوج في نيو مكسيكو إلى جلسات الاستماع في مجلس الشيوخ بالأبيض والأسود، إلى الموسيقى الحارقة والقاسية التي ستجعلك تشعر بكلّ إيقاع، سيطرة نولان على النغمة والتوّتر مدعومة بشكل لا يقاس من خلال المونتاج الماهر والموسيقى التصويرية القوية للغاية، والتي بدورها منحت الفيلم طاقة محمومة لا تهدأ أبداً، ما يعكس الحياة الداخلية العصبية للبطل.
أوبنهايمر أمام الحقيقة
تحدّد القنبلة الذرية إرث "أوبنهايمر" وتُشكل هذا الفيلم، إذ يُلقي المخرج نولان نظرة طويلة ومدروسة على العملية المذهلة لبناء القنبلة، لكنه لم ينفتح أكثر على النتائج، والنتيجة هي فيلم مثير وجميل ورائع للغاية، لكنه يُشعر بالإحباط.
عانى الفيلم من فجوة لا يمكن التوفيق بينها وبين الشكل والوظيفة. لنقُلها بشكل صريح: بمجرّد أن تجاوز "أوبنهايمر" ذروته النووية، يختفي قدر معين من التوّتر في الفيلم.
لم ينجح المخرج في نقل الثقل الكامل الذي يقع على أكتاف أوبنهايمر بعد التفجير، بل إنّ الفيلم يصبح غامضاً بشكل مزعج في اللحظة التي يبدو فيها أنه على وشك حساب العبء الثقيل لعبقرية البطل.
لم نر تفجيرات هيروشيما وناغازاكي لأنّ أوبنهايمر لم يرها، لكن وفقاً لهذا المنطق، يجب على الأقل أن نشارك في أفكاره، مهما كانت متناقضة، لأنّ الشخصية الرئيسية تعاني منها باستمرار.
لا توجد لقطات وثائقية لآلاف الجثث، أو الصور البانورامية لمدن ملقاة تحت الأنقاض، ربّما تبدو قرارات المخرج هذه أخلاقية في المقام الأول، ربّما لم يرغب في إعادة فتح الجرح التاريخي المؤلم، أو ربّما أخذ في الاعتبار كلمات المخرج الفرنسي فرانسوا تروفو حين قال "لا يوجد شيء اسمه فيلم مناهض للحرب". وبهذا المنطق أمسك بالحقيقة كاملة وحوّلها إلى مشهد رعب واقعي، مع حجم المعاناة التي سبّبتها، مع سباق التسلّح النووي الذي أعقب الحرب. كلّ هذه الأفكار كانت تحيط بالفيلم وتضغط عليه.
الفيلم هو بمثابة مكعب الروبيك، متعدّد الأوجه والإثارة، الدراما المحكمة، فيلم حرب، قصة حب، حقائق تاريخية رُويت بجميع تفاصيلها المرعبة
أما إذا كانت لديك الرغبة في تعلّم شيء ما عن "أوبنهايمر" على الأقل، فإنّ المخرج سيخيّب ظنك، إنه أشبه بإعادة سرد أحداث الحياة، وليس الصفات الشخصية، بل وأكثر من ذلك الأفكار والأفكار. إمّا أن "أوبنهايمر" سعيد لأنه صنع سلاحاً قاتلاً، أو أنّه يلوم نفسه، هل يريد التوقف عن تطوير أنواع جديدة من الأسلحة لأنه قلق على العالم، أو لأنّ شخصاً ما سيصنع قنبلة أقوى ويصبح أهم رجل في العالم، هل يشعر بالأسف على الذين ماتوا في هيروشيما وناغازاكي؟ أم أنّ موتهم، مجرد جزء من الوظيفة... فأهم شيء في الفيلم هنا، أنّ المخرج لا يخفي تعاطفه مع بطله كشخص وعالم، الفيلم صريح بشكل آسر، كما أنّه لا يحاول تبسيط أزمة الضمير التي لاحقت البطل، والتي من الواضح أنّها لم تكن سهلة، بالنظر إلى أنّ نولان يوضح كيف أنّ الحرب العالمية الثانية لا يمكن أن تستمر أكثر من ذلك (تزايد الخسائر على الجانبين الأميركي والياباني مع مرور الوقت).
حتى أنّ الممثل كيليان مورفي وأوبنهايمر يتشاركان الجسد ذاته، جسدا رقيقا للغاية كما لو كان هشّاً جداً لدرجة أنّه لا يتحمّل هذا العقل العبقري، وبشرته التي تبدو شفافة. أحياناً يمكنك أن ترى تقريباً كيف ترتجف العروق تحتها، أداء تمثيلي حقيقي، وهذا ما يفعله الممثل العظيم عندما يمنحه المخرج قصة بهذا الثِقل، إضافة إلى أداء جميع الممثلين الرائعين.
في النهاية سأقول إنّ الفيلم هو بمثابة مكعب الروبيك، متعدّد الأوجه والإثارة، الدراما المحكمة، فيلم حرب، قصة حب، حقائق تاريخية رُويت بجميع تفاصيلها المرعبة. كلّ هذه المفاهيم جمعتها جاذبية أداء الممثل كيليان مورفي. الفيلم هو إنجاز رسمي ومفاهيمي عظيم يجذب المشاهد، لكن الأهم من ذلك هو أنّ اتجاه المخرج نولان في هذا العمل كان في خدمة التاريخ، وليس العكس.