في الحنين إلى شعار اقرا الحادثة (1/2)
كنت محشوراً حَشرة مهبّبة في المقعد الضيق، أحاول أن أجد سنتيمتراً فارغاً ذات اليمين أو ذات الشمال لكي أُريح إحدى قدميّ قليلاً، فأصطدم أنّى اتجهت قدماي بكتلة دهنية تحد من حركتهما ليصبح أقصى مابوسعي أن أقوم بتحريك جسدي في مكانه صعوداً وهبوطاً، فقط لكي أوهم نفسي أنني حر الحركة في مقعدي، وأنني لم أخطئ عندما وافقت على الحصول على التذكرة التي وجدتها متاحة في بلكون المسرح، بعد أن ظللت واقفا في الطابور الطويل لأكثر من ساعتين.
انتبهت جارتي العجوز السمينة إلى حالتي فنظرت لي بتعاطف وقالت ضاحكة: "كان بودي أن أخدمك لكن حالتي أصعب كما ترى"، كانت حالتها أصعب بالفعل، فحدودها الشاسعة تمتد شرقاً من الناحية الغربية من جسدي وحتى منتصف جسد السيدة الجالسة إلى جوارها التي كانت أنحف من في صفنا، ولكي أقرّب لك الصورة تستطيع أن تقول إن جسمها يشبه جسم المرشحة الرئاسية هياتم في أيام خريفها، لا في أيام عزّها.
قلت لجارتي العجوز مازحاً ومتجاوباً مع توددها: لا بد أن نرفع دعوى على إدارة المسرح نتهمها بالتمييز لأنها قررت أن تجمع كل البدناء في صف واحد ليجلسوا إلى جوار بعضهم البعض، كان الأولى أن يتم توزيعنا على أرجاء المسرح بالعدل. لم تضحك، ربما لأن الضحكة لم تجد سبيلاً إلى الخروج وسط هذه الزنقة، وقالت لي بجدية: بالعكس هكذا أفضل كثيرا، نحن كبدناء يمكن أن نتحمل بعضنا، لكن لن يتحملنا أبدا أحد من أولئك النحيلين الملعوب في أساسهم. ـ بالطبع هي لم تقل "الملعوب في أساسهم" بالنص ولكن هذا ما فهمته من روح كلامها والترجمة خيانة للنص كما تعلم ـ.
كانت تجلس على يميني سيدة جميلة جداً وبدينة جدا، لم يجد زوجها حرجا في حشرها إلى جواري، ليس لأنه ناقص المروءة، بل لأن مقعده كان يقع في بداية الصف وكان يحتاج بجدية إلى أن يضع نصف كرشه في الممر لكي يتمكن من التنفس أثناء جلوسه، أبدت السيدة تعاطفها معنا وخصّتني بتعاطف إضافي، لأن حالتي أصعب بكثير "أنت طويل أيضا، وكراسي المسرح مصممة خصيصا للسياح الآسيويين ضئيلي الحجم"، هكذا قالت لي بمودة قبل أن ينبهها زوجها إلى أن هذا التعليق يمكن أن يكون عنصرياً، فنظرت حولها لكي تتأكد من عدم وجود سياح آسيويين، قبل أن تضيف: "لم يعد الإنسان يستطيع أن يتحدث على سجيته هذه الأيام".
كانت سيرة الأعراق قد حلت، فسألتني السيدة العجوز "من أين أنت"، وعندما قلت إنني من مصر، ندّت ثلاث آهات إعجاب منها ومن البدينة الجميلة ومن زوجها أيضا، في ذات الوقت الذي كنت أنظر إلى صف بعيد تجلس به من يبدو عليهن أنهن عارضات أزياء، وأفكر بمنتهى التفاهة أنني كنت سأقدر آهات الإعجاب أكثر لو كانت قد صدرت عنهن.
لم تصدق السيدة أن أمي لم تذهب في حياتها إلى مسرح، وقالت لي بحرارة شديدة إنني لن أكون ولداً باراً بأمي، لو لم آت بأمي إلى برودواي لأجعلها تشاهد أجمل المسرحيات الموسيقية المعروضة هنا
قالت السيدة العجوز إنها تخطط لزيارة مصر: "بعد أن ينتهي التوتر لديكم"، حاولت أن أكون إيجابياً وأشجع السياحة وكداهوّن، فأقول لها إن التوتر قد انتهى من زمان وأوصيها هي وكل جيران الصف بأن يدخلوا مصر آمنين في أقرب فرصة، لكنني تذكرت الإعلانات التي كانت تذاع في وسائل الإعلام الرسمية بكثافة قبل سفري والتي تحذر سكان المحروسة من خطر الأجانب الجواسيس، فخشيت "ريلي" أن أكون سببا في تشجيعها على المجيئ إلى مصر لتتبهدل على آخر عمرها، خاصة أنها تعشق الرغي كعينيها، وربما رغبت أثناء زيارتها لمصر أن تعرف آخر أخبار مخزون مصر من الزيت والسكر الذي لا أدري لماذا يشغل الجواسيس أنفسهم بسؤال المواطنين عنه مع أنه يُعلن كل أسبوع في تصريحات صحفية على ألسنة العديد من المسئولين، يعني، سيدة رغّاية مثل هذه لو جاءت إلى مصر لن تستطيع مسك لسانها عن السؤال عن الفاضية والمليانة، وعندها ستجد نفسها فريسة للمواطنين الشرفاء الذين تشكل وجدانهم على يد قناة الفراعين وسيادة الخبير الإستراتيجي حسام كاطو عبد الفتاح سويلم، فاكتفيت بالتمتمة بكلام عن حلاوة شمسنا وخفة ظلنا، لكني من أجل الأمانة العلمية لم ينطق لساني أبداً بأن الجو عندنا ربيع طول السنة، لأن للكذب حدوداً حتى لو كان في حب الوطن.
قرر جارنا البدين فجأة أن يظهر حبه لزوجته، ربما لكي يحارب أي أفكار شريرة تصور أنها سترد في ذهني لتفسير تلاصق جسدينا، فقرر أن يتبادل معها قبلة طويلة لم يكن المقام مناسبا لها، لأنه وهو يلف يده لكي يضعها على كتفها، وجّه لكمة من غير أن يقصد لسيدة بدينة تجلس في الصف الخلفي، كانت بالصدفة قد أمالت رأسها بإتجاه مقعدنا وهي تبحث فيما يبدو عن قناع الأكسجين لكي يساعدها على التنفس، وبعد أن وجّه لها اعتذاراً خاطفاً، لم يبال باستمرار غمغمات السيدة الملكومة، وعاد لكي يقبل زوجته بنهم لم يكن مبررا دراميا.
قررت أن أغض البصر عما يحدث إلى جواري وأنخرط في حواري مع السيدة العجوز التي وجدت فيها شبهاً مفرطاً مع المرحومة الجميلة إحسان القلعاوي، بس على أصفر، فاتضح أنها ليست عجوزة جدا كما يبدو عليها، فقد تقاعدت منذ أشهر فقط، بعد أن ظلت لسنوات طويلة تعمل مدرسة للغة الصم والبكم في إحدى مدارس منطقة برونكس إحدى مناطق نيويورك الخمسة الرئيسية، وعرفت أنها تسكن في ضاحية لونج آيلاند خارج نيويورك، ومنذ أن تقاعدت قررت أن تشبع عشقها القديم المكبوت للمسرح، فتحضر كل أسبوع مسرحيتين من مسرحيات برودواي الشهيرة، خاصة وقد تُوفي زوجها الذي لم تكن تحبه لأنه كما فضفضت لي، كان هو الذي تسبب لها في هذه البدانة بسبب عشقه للأكل ثم مات وتركها، وبعد موته لم يعد لديها ما يشغلها سوى متابعة تعليم ابنتيها، الكبرى تدرس الغناء الأوبرالي، وقد وجدت الأم فيها منفذا لتحقيق حلمها القديم بأن تصير ممثلة مسرح، أما الصغرى فهي تحب الرياضة أكثر وتريد أن تصبح بطلة أولمبية لكيلا تنال مصير والديها.
"وبناءً عليه" تأتي صديقتي العجوز المحشورة معي من بيتها مرتين في الأسبوع لكي توصل ابنتها إلى جلسات التدريب الأوبرالي في مركز لينكولن الثقافي الواقع غرب السنترال بارك حيث تتلقى رعاية فائقة، لأنها موهوبة حقا بشهادة الجميع، بينما تأتي الأم إلى شارع برودواي لتدخل في كل مرة مسرحية تكون قد حجزتها مسبقا على الإنترنت من المواقع التي تقدم تخفيضات لهواة المسرح، ولكي تؤكد على خبرتها بشئون برودواي، مدت يدها إلى حقيبتها وأخرجت منها دليلاً إعلانياً للمسرحيات التي تعرض حاليا على خشبات المسرح، ثم تقمصت دور الناقدة المسرحية بحماس شديد وبكفاءة منقطعة النظير، فقد كانت تلخص لي مضمون المسرحية في سطر واحد قبل أن تعقب عليه بحكم قاطع جامع مانع كالآتي: "مملة ـ مثيرة ـ بها رقص رجولي أكثر من اللازم ـ مبهرة تكنولوجيا لكنك ستمل منها بعد قليل ـ يجب أن تكون شغوفا بالطراز القديم من المسرحيات لكي تحبها ـ رائعة ستبكي حتى تبتل لحيتك وأنت تراها ـ بها كلام أكثر من اللازم ـ جميلة لكنني شعرت بالغيظ لأن كل ممثلاتها نحيفات جدا ـ يا إلهي لمثل هذه المسرحية أحب أن أذهب إلى المسرح".
قالت كل هذا قبل أن تميل عليّ قليلاً وهي تشير إلى إعلان مسرحية (جيرسي بويز) وتقول متهكمة "أما هذه فيجب أن تكون مثلياً لكي تستمتع بها"، قبل أن تقول لي "لا أقصد الإهانة إذا كان كلامي سيضايقك"، شعرت أنها قالت لي ذلك لأنها وجدت أنني لم أتأثر كثيراً بما يدور إلى جواري من مهارشات عاطفية حولت الكرسيين المجاورين إلى كتلة متلازة، فحرصت على تأكيد أنني متزوج ورزقت بابنتين مثلها تماما، قالت لي وهي تخفض صوتها: "هذا من حسن حظك.. المثليون جنسياً هنا أصبحوا أكثر من اللازم..
ليس لدي موقف ضدهم ولكن أنت تعلم"، ثم غمغمت وغيرت الموضوع بأن أخرجت من محفظتها صورا لابنتيها وللمرحوم، قبل أن تسألني عن صور أسرتي، وبعد أن بدأت تقلب الصور معي على الموبايل رأت صورة لوالدتي فسألتني عن عملها، وفرحت كثيرا عندما قلت لها إنها أيضاً مدرسة، وسألتني باهتمام: هل تذهب إلى المسرح أيضا مثلي؟، حاولت أن أشرح لها أن طبيعة الحياة لدينا لا تجعل الأمهات لدينا يذهبن إلى المسرح، ولا الآباء والأبناء أيضاً، فنحن نكتفي في الغالب الأعم بمشاهدة أحط أنواع المسرح في التلفاز في الأجازات والأعياد.
لم تصدق السيدة أن أمي لم تذهب في حياتها إلى مسرح، وقالت لي بحرارة شديدة إنني لن أكون ولداً باراً بأمي، لو لم آت بأمي إلى برودواي لأجعلها تشاهد أجمل المسرحيات الموسيقية المعروضة هنا، ثم سألتني باستنكار: هل تريد أن تموت أمك وهي لم تجرب بهجة المسرح؟، كنت على وشك أن أشرح لها أن أمي متعها الله بالصحة تمتلك مفهوماً مختلفاً للبهجة مثل كل الأمهات المصريات، لكن أنوار المسرح أطفئت إيذاناً ببدء المسرحية، دون أن يتم الدق على أرضية المسرح ثلاث مرات كما تعودنا في مسارحنا، ودون أن يحتاج الناس إلى وقت طويل لكي يهدأوا قبل أن تبدأ المسرحية كما تعودنا أيضا في مسارحنا.
المسرحية التي بذلت من أجلها كل هذا العناء اسمها NEWSIS أو "بتوع الجرايد"، وهي من إنتاج شركة والت ديزني، التي كانت قد أنتجت قصتها أصلا في فيلم موسيقي عام 1992 من بطولة الرائع روبرت دوفال و الوجه الجديد ـ وقتها ـ كريستيان بيل الذي اشتهر فيما بعد بدور باتمان وأعمال كثيرة متميزة. كنت قد قرأت عن الفيلم لكنني لم أشاهده، فشجعني ذلك على أن أشاهد العرض ممنياً نفسي بمتعة فائقة، خاصة أن العملين يعتمدان على قصة حقيقية عن أشهر إضراب لباعة الصحف من الأطفال والمراهقين والمشردين وقع عام 1899، وهو الإضراب الذي قاده ابن شوارع في السابعة عشر من عمره في مواجهة "تايكون" الإعلام جوزيف بوليتزر، حيث تمكن بعد عناء من إجبار بوليتزر على التخلي عن قراره برفع سعر النسبة التي تحصل عليها صحيفته من "الغلابة بتوع الجرايد".
...
نكمل غداً بإذن الله.