في الرحلةِ الميمونة إلى القرية الميمونيّة (3)
مصطفى العادل
لم أتردد لحظةً في التّعبير عن رغبتي الكبيرة في حضور الملتقى بآيت ميمون، نبّهت صديقي عبد المجيب، منسّق الملتقى، إلى إمكانية تغيير موعده إلى فترة العطلة المدرسية من أجل أن يحضر الجميع، ثم انتبهت فيما بعد إلى أن الملتقى كان قد تقرر موعده أصلا في أسبوع العطلة.
كنت طيلة الأيام القليلة قبل الملتقى منشغلا بالتفكير فيه، وكنت أفكّر في الذهاب إلى مدينة وجدة خلال تلك العطلة من أجل أطروحتي للدكتوراه، كنت أشعر بالحزن أحيانا لأنني قد أسافر نحو الشمال الشرقي، ويسافر الأصدقاء ممّن يحملون معي همَّ التأويليات الجديدة ومتابعة مشروع أستاذنا الدكتور بازِّي في البلاغة الكبرى تجاه الجنوب الغربي.
سافرت كثيرا منذ أن ولجت القسم الداخلي الذي يبعد عن قريتنا آنذاك بأكثر من خمسين كيلومترا. وكان عمري في ذلك الوقت لا يتجاوز اثني عشر عاما. تحمّلت منذ تلك السنّ مسؤولية كبيرة وقاسيت الشيءَ الكثير من أجل النجاح، ثم انتقلت ثانية إلى القسم الداخلي من أجل التعليم الثانوي التأهيلي، وكنت أقطع أكثر من مائة كيلومتر من أجل الجامعة، وما إن أتممت سنوات الإجازة حتى وجدت نفسي أقطع ما يقرب من ألف كيلومتر من أجل الماستر والدكتوراه.
يعلّمنا السفر كثيرا، وربما يدرك المسافر دوما حقيقة سفره في هذه الدنيا، فيجتهد ويعلي من مستوى طموحاته دون أن يأبه بالعراقيل والمحن والابتلاءات التي ترافق كل سفر.
في السفر نتعلم الصبر والأمل والتفاؤل، وندرك حقيقة هذا الوجود وحقيقة الوقت والزمن، ونعلم أن لكل شيء بداية ونهاية، وأن الإنسان مهما كان سفره سوف يصل في النهاية إلى النقطة التي اختارها، وفي السفر دروس بليغة على الزاد وضرورة الاستعداد.
سافرت منذ سنوات الماستر إلى معظم المدن المغربية للمشاركة في مؤتمرات وندوات وطنية ودولية، ثم سافرت إلى ما وراء النهر في مؤتمر دولي في تخصص التاريخ العثماني بتركيا، لأخبر المؤرخين بأن ثمة أشياء ما تجمع اللغة والأدب بالتاريخ، وأن الرواية التاريخية بإمكانها أن تؤثر أكثر مما تؤثر كتب التاريخ المتخصصة. شعرت وأنا آنذاك ابن الأربع والعشرين فقط بأنني بدأت بالفعل مسيرتي الشاقة.
تساءلت في كثير من الأحيان عن أسباب هذه المغامرات، ثم شعرت يوما بعد يوم بأنني أحمل بالفعل همًّا أكبر مني، شعرت بالإحباط في بعض المؤتمرات في المغرب، وكنت قد فكرت كثيرا في الصوم عن المشاركة فيها إلى ما بعد الدكتوراه، لم يكن بعض الأساتذة يحبون أن نتقاسم معهم الجلوس في منصات الندوات والمؤتمرات، نحن طلبة الماستر بالخصوص. أبدى بعضهم هذا بالفعل في كثير من الأحيان وكأنهم ينصحوننا:
المشاركة في المؤتمرات من الأفضل أن تؤجلها حتى تلج إلى سلك الدكتوراه.
كدت أن أخسر الشيء الكثير من نفسي لولا أن الجبال التي تحيط بقريتنا تصدع في أعماقي كلما عدت إليها أن واصل اجتهادك دون الالتفات.
شعرت باليأس في لحظات كثيرة لأن أبحاثي لا تُقبل في بعض المؤتمرات والمجلات بدعوى أنني طالب في سلك الماستر، وكنت أقضي على ذلك الحزن بالكتابة والنشر في المواقع الإلكترونية التي تقبل كل شيء، كنت في أمس الحاجة إلى الكتابة من أجل سلامة عقلي ونفسي. الكتابة داء يؤرق الكاتب ويؤلمه لدرجة الكتابة، فعندما نكتب، فإننا نعبر عن آلامنا وأحزاننا، وقد تكون كل تلك الآلام والأحزان من داء الكتابة نفسه.
كنت أكتب في كثير من الأحيان لأن كتاباتي لا تجد مكانا لها في العالم الرحب، وعندما وصلت إلى حد اليأس في الكتابة والبحث عن النشر، فكرت في الجمع بين النشر والكتابة، أنشأت عدة مواقع خاصة ومدونات، واستغرقت وقتا طويلا في إعدادها والنشر فيها، ثم سرعان ما تُغلق تلك المدونات لأنني لم أكن أدفع المال مقابل استمرارها، لم أكن أملك بطاقة بنكية، وكنت أنتظر في كثير من الأحيان موعد المحنة الجامعية من أجل سد جزء من حاجاتي الضرورية من مأكل ومشرب.
ينظر الإنسان بمنظار مشوَّه إذا كان يرى أن هذه المراحل التي يقطعها الإنسان عبارة عن محن، وهي المنح التي تلهمه كل معاني القوة والصبر، وتزوده بمفاتيح النجاح من أجل المستقبل.
فلولا كثرة السفر، والمعاناة، والبعد عن الأهل، لما تربيّنا على الاعتماد على النفس، ولما عرفنا رجالا ونساء لا تزال معرفتهم من أهم أسباب النجاح إلى اليوم، ولله درّ الشافعي عندما قال في شعره الحكيم البليغ:
ما في المقامِ لذي عقلٍ وذي أدب مِنْ رَاحَةٍ فَدعِ الأَوْطَانَ واغْتَرِبِ
سافر تجد عوضاً عمَّن تفارقه وَانْصِبْ فَإنَّ لَذِيذَ الْعَيْشِ فِي النَّصَبِ
إني رأيتُ وقوفَ الماء يفسدهُ إِنْ سَال طَابَ وَإنْ لَمْ يَجْرِ لَمْ يَطِبِ
والأسدُ لولا فراقُ الأرض ما افترست والسَّهمُ لولا فراقُ القوسِ لم يصب
والشمس لو وقفت في الفلكِ دائمة لَمَلَّهَا النَّاسُ مِنْ عُجْمٍ وَمِنَ عَرَبِ
لقد سافرت كثيرا في أرض بلدنا الحبيب، ثم سافرت عبر مواقعنا التواصلية في مشاريع وملتقيات علمية، وتعرفت فيها على العديد من الباحثين الذين لم ألتق بهم من قبل. وكلما حان موعد فعالية علمية إلا وشعرت بشوق كبير، وغمرتني سعادة لا توصف لأن هناك دوما من نحبه ويحبنا دون أن نراه يوما. وفي كل فعالية أناس من أهل العلم تستحق معرفتهم السفر والترحال.
لقد اشتغلت على كتابات الدكتور بازي، وشعرت بشيء ما يجذبني إليها ويغمرني بالاطمئنان وأنا أقرأ صفحاتها، وتشارك معي هذا الهم ثلة من الشباب، فكتبنا في مشروعه وتداولناه فيما بيننا عن بعد دون أن نلتقي يوما، ودون أن نلتقي بالدكتور بازِّي من قبل.
كانت هذه الأسباب كلها عاملا محفزا من أجل شد الترحال جنوبا في اتجاه قرية آيت ميمون، ولم تكن المعيقات على تعددها واختلافها لتغيّر رغبتي وسعادتي بقدوم الملتقى.