في الشرق نتعلم كيفية الموت
تربينا منذ الصغر على الخوف من الله على أنّه ذلك الإله الحارق في النار، كنّا نهدّد بالعقاب والحرق في جهنم عند كلّ سيئة ننوي فعلها أو نفعلها، حتى لو كانت عند الله لا ذنب فيها. كان المجتمع هو الأهم، فمعاييره أهم من الصراط المستقيم، وعاداته أقدس من العقائد الإسلامية، فيا ليتنا حافظنا على العادات النافعة والتزمنا الإسلام المحمدي الأصيل.
لم يكن التخويف سلوكاً أبوياً فطرياً، إنّما هو ثقافة مستمرة من المدرسة التي يخوّفنا المعلّم فيها بعقاب الفلق (الضرب بالعصا على الأيدي والأرجل)، إلى البيت الذي من المفترض أن يكون ملجأ طمأنينة، والذي تهددنا فيه الأم بأبينا العائد من العمل، بل وأحياناً تهدّدنا أمهاتنا بالحرمان العاطفي، كأنّي بأمي تقول: "لا تجي جنبي، ممنوع تحكي معي، أنا غضبانة عليك"، وهكذا.
ومن أغرب الجمل التي سمعتها كنوع من التهديد، هي عندما كان أحد أقاربي يتوّعد ابنه قبيل امتحانات الشهادة الإعدادية بأنه إذا لم ينجح (ابنه)، فسيجبره على أن "ينظف تحت الدواب ويحلب البقرات"، وجارنا كان يخوّف ابنه بإرساله إلى الخدمة العسكرية، وكثير من التهديدات. وبالمقابل، نادرا ما كنت أسمع أحدهم يرغّب ابنه بثوابٍ أو مكافأة في عمل حسنة أو إفادة مجتمع.
لم يكن التخويف سلوكاً أبوياً فطرياً، إنّما هو ثقافة مستمرة من المدرسة التي يخوّفنا المعلّم فيها بعقاب الفلق
الله في كتابة الكريم تعامل مع البشر بهذا الأسلوب، وهو من الأساليب القرآنية المندرجة تحت مسمّى باب التقابل، وهو من أساليب البلاغة العربية. فالقرآن الكريم كتاب دعوة في الأساس، وهذا الأسلوب من أنجع الأساليب في الدعوة؛ لاعتماده على عنصري الثواب والعقاب، اللذين علم الله من طبيعة البشر أنهما يشكلان حافزاً قويًّا؛ للإقبال على كل ما هو نافع، والانكفاف عن كل ما هو ضار.
فلماذا نستخدم التخويف فقط؟!
يقول أرسطو: "البشر يُحْكَمُون بالخوف، أكثر من المهابة"، يعني هذا أننا لا ندرك أهمية الشيء ومقدراه وقيمة إفادته، إنما نعرفه فقط بالتخويف والترهيب، هكذا اعتدنا، وكما قال جورج أورويل في روايته "1984": الأخ الكبير يراقبك، فكل محيطنا الأخ الكبير، وكل المشاعر المحيطة بنا هو الخوف.
كنا دائماً مراقبون، والجدران لها آذان، مجتمعات أحادية تقدس كل ماهو سلبي، على حسبها أنه مظهر من البلاءات التي تؤدي بنا في النهاية إلى الجنة، ترانا نقدّس المرثيات، نحب النحيب على المفقودين والأموات، نحنّ للأشياء، حيث لا بعد ولا فقد، نتمارض حيث لا مرض ولا سقم، علماء ديننا يخوّفوننا من العقاب، وزراؤنا يتوعدوننا بالقوانين الصارمة، ثقافتنا، مجتمعنا، كلها تحض على الخوف من الموت، والموت في خوف.
ندرّس في مجتمعاتنا كيفية الموت، نتعلم على سبل الرحيل، سواء بالقتل أو الإرهاب، بالتعذيب أو الاعتقال، والقصر في الاعتقاد والعبادت والتعليم، لا نعرف المحبة ولا الله، لا نتفنن سوى بالتخويف والوعيد، في بلادنا السلام والأمان نخفيهما، كأننا نعيش في سلسلة مستمرة من أفلام الأكشن!!
أستمع لكلام أم كلثوم في رائعتها "ألف ليلة وليلة" التي تقول فيها :"قولها للطير، للشجر، للناس، لكل الدنيا، قول قول قول، الحب نعمة مش خطيّة، الله محبّة، الخير محبّة، النور محبّة".
في النهاية، أتساءل حزيناً، لماذا يخوّفنا المجتمع ورجال الدين والساسة؟ وتطمئننا أم كلثوم المطربة؟