في حريق الغابة... ثمّة أرواح كثيرة تحترق
منذ أسابيع، وبفعل الحرارة الشديدة لهذا الصيف، وقع حريق في غابة منتزه النحلي في العاصمة تونس، ذلك المنتزه المجاور للحي. شاهدت صوره على مواقع التواصل الاجتماعي، فآلمني الخبر والصور كما آلم الكثيرين. كيف لا، وهو المتنفّس الوحيد لسكان الحي أمام هذا المحيط من البناءات الإسمنتية التي غزت المدينة. إنّه الخضرة الوحيدة بين كلّ الألوان النشاز المحيطة بنا، الرئة الأساسية في جسد المدينة الحديثة، مدينة فوضى الألوان والأصوات والمشاهد. إنّه المكان الذين نحتمي به لنخفّف عن أنفسنا عبء الكربونات، والضجيج والحيطان...
زرته البارحة متطلّعاً، كعادتي، إلى خضرة أشجار الصنوبر بعطرها البهي، إلى أشجار السرو العالية، وإلى كثافة النباتات، وهي تغطي الأرض بكلّ تفاصيلها: السهل والهضبة والمنحدر... إلى برودة النسيم في هذا الصيف الحارق. للأسف، كان تطلّعا لا أكثر! فمن الأمتار الأولى، بدا المشهد مرعباً، مشهد للسواد يلطمك بعنف. الأرض عارية تماماً، لا شيء أخضر. الأشجار هياكل متفحمة، النباتات التي أعرفها تبخرت. رائحة الحريق تملأ المكان رغم مرور أيام على الحدث. يا له من مشهد. بعد الرؤية، تضاعف الألم الذي شعرت به أثناء مشاهدة الصور وقراءة الكلمات، فالمشاهدة وحدها لم تكن كافية، وتبدو قاصرة عن الوصف.
يبدو أنّه يجب أن تكون هنا كي تملأ كلّ الحواس بآثار الحريق والموت. يجب أن تكون هنا كي تسمع صراخ الأشجار والأعشاب، وهي تبكي نهايتها. تسمع ألم الأرض، وهي تبكي أبناءها وبناتها، تروي قصّتها وقصّتهم، عشرتهم الطويلة، أيامهم الصعبة صيفاً، سرورهم بنزول الأمطار، فرحهم بأزياء الربيع، صحبتهم مع الحيوانات والطيور، فرحهم بالزوّار، نساء ورجالاً، شيوخاً وأطفالاً وشبابًا.
إنّه المكان الذين نحتمي به لنخفّف عن أنفسنا عبء الكربونات، والضجيج والحيطان
يجب أن تكون هنا كي تشاهد عراء الأرض، خوفها وخجلها وهي تستقبلك بهذا الوجه الحزين المشبع بالخدوش. لا شيء تقدّمه لزائرها، لضيفها المبجّل، لصديقها القديم. لا أوكسجين طازج، لا رائحة لإنعاش الروح، لا قدرة على وأد السموم الطالعة من الأبدان، لا نسيم في هذه الأجواء الحارة، لا موسيقى تطلقها العصافير المتقافزة من غصن الى آخر..
يجب أن تكون هنا كي تقدّم العزاء كاملاً، تمشي بصمت، ذاهلا ومتألماً، منصتاً بانتباه إلى الحكايات التي يقولها المكان، متأملاً أرواحاً سابحة في الفضاء في حالة وداع.
تسمع أنيناً وزفرات، ترى ما لا يراه الآخرون، دموعاً لبقايا أشجار ونباتات، إشارات توديع بأياد عليلة، أمواجا تغيب ببطء في الفضاء الواسع، تلاحق كمًّا هائلاً من الأرواح الصاعدة إلى السماء.
مع حريق الغابة ثمّة أرواح كثيرة تحترق.