في حضرة قرطبة
"ليتني كنت أندلسياً" أقول في سري إذ أتأمل بصمت عظمة قرطبة. الصمت ليس خياراً هنا، بل فرض إجلالاً لماضيها. أقترب من مشارفها فتبهرني بأنوارها.
رفقاً بروحي المتعبة يا قرطبة، فالنور المفاجئ يؤذي العيون التي استكانت للظلام طويلاً. أخلع نعلي وأدخل المدينة على مهل مطمئناً. أمشي بروية، لا كي أتأمل هذا الجمال فحسب، إنما خجلاً من الذاكرة. أخشى أن يوقظ صدى خطاي أحياء المدينة فيُبعثوا من مراقدهم بغير أوان. لا أريد أن أفجعهم بموتي فلطالما ظنّوا أنني مستقبلهم. ليس غريباً في حاضري أن يموت المستقبل ويظلّ الماضي حيّاً. جئت قرطبة قاصداً منزل قاضيها. لم أزر هذه المدينة قبلاً، ولا أخاف الضياع بين شوارعها العريضة وأحيائها المتناقضة، فالذاكرة بلا شك ستصحبني إلى حيث أقصد.
"هل جئت طالباً العلم أم الحكمة؟" يسألني ابن رشد
"جئت قاصداً العلم والحكمة معاً"، أجيبه
وهل صرت أهلاً للحكمة يا بني؟
ليس بعد أيها المعلم ولهذا جئتك طالباً أن تعلمني إياها.
وما حاجتك للحكمة يا حسن؟
أنا على مشارف الأربعين، أخاف أن أدخل سنّ الحكمة حاملاً في داخلي حماقات الطفولة وأخطاء الشباب.
احفظ عنّي يا بني إذاً: أما العلم فإنه أول أمر إلهي في قوله تعالى "اقرأ"، واقرأ هنا كانت أمراً للتأمل والتفكّر وإعمال العقل. إذ إن الله سبحانه يعلم بعلمه المطلق بأن نبيه عليه الصلاة والسلام ليس بقارئ، كما لم يحمل جبريل معه صحيفة أو كتاباً ليُقرأ. فالمراد بالقراءة هنا إعمال الذهن وليس تجميع الحروف والكلمات. وقد قالت العرب: "اطلب العلم من المهد إلى اللحد"، وقالوا أيضاً: "اطلب العلم ولو في الصين". ولم يرفض النبي الكريم حكمة العرب في أقوالهم. فالعلم الذي فرضه الله علينا ليس محدوداً بزمان ولا بمكان. وفضل تعلم العلوم الدنيوية كفضل تعلم علوم الآخرة. واعلم أن النقل معرفة ولا تصح هذه المعرفة فتصير علماً إلا بالعقل. فلا يوجد علم بلا معرفة تسبقه، ولا يصح نقل بلا عقل يصوّبه. وعلينا أن نقبل إرث من سبقنا، فنأخذ ما حسُن منه ونجادل ما لا نستحسن منه. واعلم يا بني بأنه لم يكن لنا من معرفة لولا أننا تعلمنا من القدماء، ومن واجبنا أن ندوّن لمن سيرث الأرض من بعدنا. أما الحكمة، فلكل امرئ حكمته الخاصة، ولا يستطيع أحد أن يعلمك إياها. ولا أنت قادر على أن تعلم حكمتك لأحد. ولا تخشى حماقات الطفولة ولا أخطاء الشباب، فهما شرطان أساسيان لاكتساب المعرفة. والمعرفة مقدمة العلم. أما الحكمة فتكتسبها فقط حينما يرى الناس علمك في يومك. والآن يا بني فقد جاء دوري لأطمئن على أحوالكم، فقلما يأتيني زائر من المستقبل. كيف أحوال المسلمين في بلاد الفرنجة؟
ليست سيئًة، لكنها أفضل من أحوالهم في بلادهم.
وهل ما زالت محاكم التفتيش تطاردنا هناك؟
محاكم التفتيش انتقلت إلى دمشق وحلّ محلها في أمستردام محاكم التشويش.
وما أحوال العامة؟
لقد أصبحوا خاصة
وماذا حلّ بالخاصة؟
إنهم يهتدون بهدي العامة.
هل ستعود إلى دمشق أم إلى أمستردام؟
إلى أمستردام، فلم يحن موعد عودتي إلى دمشق بعد يا سيدي.
إذاً قل لديكارت إن وحدة العقل عدالة إلهية ولا يناقضها اختلاف الفكر. وبلغ سلامي لليهودي الرشدي اسبينوزا وقل له: "لا تهن ولا تحزن فإن من يجادل حاضره تنصفه الذاكرة، ومن يخضع لحاضره يُقصِه التاريخ".