في مديح الحكاية
(1)
في طفولتي كنتُ أستمتع كثيراً بمشاهدة المسلسل السوري "كان ياما كان"، وهو مسلسل يأتي على شكل سلاسل من حلقات متتابعة تختصّ كلّ سلسلة منها بعرض حكاية وقصة معينة، تمّ إنتاج أربعة أجزاء منه، وكان الجزء الأوّل عام 1992.
أذكر أنّني شاهدته بجزيئه الثالث والرابع، وكنتُ أهيم وأندمج تماماً في عوالم القصص والحكايات التي ينسجها، ورغمّ تقنيات الغرافيك البسيطة التي كانت متوّفرة آنذاك، واعتمد عليها في تصوير فانتازيا العفاريت والسحر في هذه القصص والحكايا، إلا أنّه استطاع أن يخلق عوالم فانتازيا مشوّقة، جذبت شرائح كبيرة من الأطفال في ذلك الزمن لمشاهدتها والاستغراق الكلّي في تفاصيل عوالمها الساحرة والخارجة عن المألوف.
ما زلتُ أُشغّل تتريْ البداية والنهاية لهذا المسلسل في كلّ مرّة أشعر فيها بالحنين لأزمنِة تلك الأيام، وأكثر ما يلفتني، إلى حدّ الآن، في كلمات تتر النهاية، مقطع يقول: "الراوي قد يُلبِسُ عصراً أثواباً من عصرٍ آخر، قد يدعو زيداً عمراً، ويُعير الخير قناع الشرّ"، فالمقطع يؤكّد بشكل صريح أهمية راوي الحكاية في سردها وقصّها وروايتها، فالراوي الذي تعدّدت أشكال ظهوره في المسلسل في أجزائه المختلفة، كان يبدأ رواية وقصّ حكايته في كلّ مرة، مستخدماً العبارة المشهورة السائدة "كان ياما كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان".
وإنّ المقطع الغنائي السابق يؤكّد أنّ الراوي الذي يبدأ سرد حكايته بالمقدمة المعهودة يتمتّع بصفات المخاتلة والحنكة والدهاء، فهو يروي متن حكايته مستخدماً أشكالاُ سردية فوق واقعية لامعهودة، يُمكنه من خلالها أن يتلاعب بالأزمنة والأشخاص والقيم كما يشاء، وكيفما يشاء.
تَجعلنا الحكاية نفهم سرّ الكون لأنّها تجعلُ منا آلهة صغار لأكوان حكاياتنا الخاصة التي نخلقها نحنُ بأنفسنا
واستذكار هذا المقطع الغنائي من التتر يُحيلني دائماً إلى التفكير بسؤال محدّد حول هوية راوي الحكايات في سياقات أعمّ من سياقات المسلسل، ففي كلّ مرةّ يرد إلى ذهني صوت راوي الحكاية المجهول وهو يَفتتح حكايته بـ"كان ياما كان..."، أهيمُ في تصوّر هُويته، شكله مثلاً، صفاته، جنسه، عمره، وقد بقيَ هذا السؤال يلحّ عليّ حتى عثرتُ على إجابته في مقطع سردي لنجيب محفوظ، يورد فيه: "يقول الراوي: ولكن من الراوي؟ ألا يُحسن أن نُقدّمه بكلمة؟ إنّه ليس شخصاً معيناً يُمكن أن يُشار إليه بإشارة تاريخية. فلا هو رجل ولا امرأة. ولا هوية ولا اسم له. لعله خلاصة أصوات مهموسة أو مرتفعة. تُحركها رغبة جامحة في تخليد بعض الذكريات".
(2)
يفتتح سعيد بنكراد ترجمته لأحد كتب أمبرتو إيكو بإهداء جميل يقول فيه: "إلى روح جدتي، لقد أدركت بالحكاية وحدها سرّ الكون"، وإنّ عبارة بنكراد هذه تأخذني فوراً إلى عوالم طفولية كنتُ أحبّها وأنا صغيرة، وهي عوالم الرسوم الكرتونية، فأنا في صغري كنتُ أفضّل الرسوم الكرتونية التي تأتي في شكل قصص وحكايا. ومن مقاطع الأغنيات اللطيفة التي كنتُ أحبّها، وكانت تأتي كمقدمة لحلقات تلك الرسوم، مقطع أوّل يحكي: "حِكاياتٌ أحكيها تموج بالألوان، حكايات أرويها عن عالمٍ فتان، عن عالم الخيال، المليء بالجمال"، ومقطع ثانٍ يقول: "في عالمٍ من الصور، حكايةٌ فيها عبر، تغوصُ في بحر الخيال وتنتقي منه الدرر"، ومقطع ثالث يقول: "حكاياتٌ لا تُنسى عبَرت بلداناً أزمان، حكاياتٌ لا تُنسى طوّرها الإنسان، طوّرها زاد الجمال، ظَهَر المغزى والمثَل، وضع بها كلّ الخيال، صارت أبدع ما فعل".
الحكاية الجيّدة من وجهة نظري، هي تلكَ التي تحكم أجزاءها بالحديد والنار، فلا تسمحُ لأحد مقاطعها أن ينفصل وينشقَ عنها ويؤسّس حكاية جديدة
كلّما تأمّلتُ هذه المقاطع الجميلة وغيرها يخطر على بالي فوراً تأويل معيّن لعبارة بنكراد الذي أقرّ فيه لجدته بأنّها بالحكاية وحدها أدركت سرّ الكون، أقول في نفسي إنّ المميّز في الحكاية، بشكل عام، هو حضور الخيال الإنساني كخالق عظيم، فالخيال الإنساني هو الذي يبتدعُ الحكاية من الصفر، يَبتكر فكرتها التي هي بمثابة طينتها الأولى، ثمّ يُمسك طينتها ويُشكّلها كما يشاء، يَخلقُ منها المكان والزمان والشخوص والأحداث، ثمّ يبدأ بتحريك هذه الطينة كما يشاء، يبنيها ويسردها كما يُريد، وكأنّ بنكراد يَريدُ أن يقول إنّ الحكاية "تعبير مجازي عن كلّ ما ألّفه الخيال الإنساني من مسرح ورواية وأفلام"، تَجعلنا كبشر نفهم سرّ الكون لأنّها تجعلُ منا آلهة صغاراً لأكوان حكاياتنا الخاصة التي نخلقها نحنُ بأنفسنا، وكـأنّ روح الجدة هي ذلك الإلهام الأبدي الذي يُلهِم الخيال الإنساني ويجعله يبتكر ويخلق حكايته الخاصة.
(3)
إنّني أُعرّف الحكاية الجيّدة على أنّها تلكَ التي لا تحتاج إلى سؤال: "نبتدي منين الحكاية؟"، إنّها الحكاية الجيّدة في مجموعها، المثيرة في كلّيتها، التي يُمكن النظر إليها باعتبارها كُتلة واحدة وصلبة غير قابلة للقطع والتجزئة. نعم، إنّ الحكاية الجيّدة، من وجهة نظري، هي تلكَ التي تحكم أجزاءها بالحديد والنار، فلا تسمحُ لأحد مقاطعها أن ينفصل وينشقَ عنها ويؤسّس حكاية جديدة يكون هو مبتدأها، إنّها حكاية لها بداية واحدة فقط، تنتفي معها الحاجة إلى سؤال "نبتدي منين الحكاية؟".