في نقد الدولة القُطرية
من المعلوم أنّ المنطقة العربية في الماضي كانت موحّدة سياسيًا وإداريًا، من المحيط إلى الخليج، أو على الأقل في مساحاتٍ جغرافيةٍ كبيرة منها، كما هو الحال مع منطقة المغرب العربي أو بلاد الشام ومصر. هذه الوحدات السياسية كانت تمثّل هويّات جماعية تنتمي إلى سياقٍ حضاري واجتماعي واحد، إلى أن جاء الاستعمار الأوروبي بمشروع "الدولة القُطرية"، وهو مفهوم مستورد فرضته القوى الاستعمارية كأداة وظيفية تهدف إلى خدمةِ مصالحها الخاصة وتفكيك هذه الوحدة الاجتماعية والسياسية بعدّة أدوات، كانت من بينها القوة العسكرية وأدوات سياسية وأكاديمية، ومن بينها الاستشراق وتأسيس تاريخ جديد للمنطقة.
الجذور الاستعمارية للدولة القُطرية
إنّ المتتبّع لتاريخ نشأة الدولة القُطرية في المنطقة العربية سيجدها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالاستعمار، وذلك عن طريق مشروع إمبريالي أوروبي يهدف لتقسيم تركة الدولة العثمانية من خلال إبرام عدّة اتفاقيات، كانت من بينها اتفاقية سايس بيكو التي سعت إلى تفكيك الوحدات السياسية الكبرى في المنطقة، مستغلةً الفراغ السياسي القائم آنذاك لترسخ وجودها من خلال تقسيم المنطقة جغرافيًا بشكلٍ يخدم مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية.
وكانت اتفاقية سايكس بيكو (1916) تجسيدًا لهذه السياسة، حيث قُسّمت الأراضي العربية إلى مناطق نفوذ بين بريطانيا وفرنسا، بحيث آلت منطقة المغرب العربي والشام لفرنسا والعراق ومصر وفلسطين للنفوذ البريطاني ورُسمت حدود جديدة لم تراع حتى الخصوصيات الاجتماعية والعرقية لسكان تلك المناطق، الأمر الذي أدّى في ما بعد لظهور دول قُطرية هجينة ومشوّهة وبروز نزاعات حدودية وعرقية وطائفية مزّقت نسيج المجتمعات العربية منذ ذلك الوقت حتى الآن، وقد هدف المستعمر من خلال تصميمها إلى إضعاف المنطقة وتفتيتها إلى كياناتٍ صغيرة تسهل السيطرة عليها. ثمّ جاء وعد بلفور الذي هدف إلى غرس كيان استيطاني في قلب المنطقة. وعليه، ليس خافيًا على أحد أنّ مشروع الدولة القُطرية في بداية نشأته كان مرتبطًا بالمشروع الصهيوني، إذ إنّ المستعمر البريطاني كان مدركًا مسألة صعوبة فصل فلسطين عن بقية محيطها العربي، فجاءت الدولة القُطرية كنوع من إضعاف تلك الروابط التي ترسّخ لوجود فلسطين في الوعي العربي الجمعي.
الدولة القُطرية باعتبارها أداة وظيفية
ومع دخول الحربين العالميتين، أصبح من الصعب على القوى الاستعمارية الحفاظ على مستعمراتها بطريقة مباشرة، إذ فرضت الحرب أعباءً اقتصادية وعسكرية كبيرة. لذا، قامت هذه القوى بمنح استقلال شكلي للمستعمرات، مع الإبقاء على أنظمة موالية تخدم المصالح الاستعمارية. كان الهدف من ذلك هو تفويض إدارة هذه الدول إلى عملاء محليين يضمنون استمرار تدفق الموارد الطبيعية والاستمرار في خدمة الأجندة الاقتصادية والاستراتيجية للاستعمار. وهكذا، كانت الدولة القُطرية أداة وظيفية في يد الاستعمار لتكريس التبعية وتحقيق الهيمنة دون الحاجة إلى الاحتلال المباشر.
وقد عمل الاستعمار على تعزيز الهويّات المحلية بشكلٍ مُبالغ فيه، عبر إعادة كتابة التاريخ لكلّ دولة قُطرية على حدة، بما يجعلها تبدو وكأنها كيان مستقل منذ القدم، بينما كانت هذه الهويات قد نشأت في الأصل تحت تأثيرات خارجية. من هنا، تمّ استخدام أدوات مثل التعليم واللغة لتشكيل الوعي الجمعي وتعزيز الروابط مع المستعمِر، في حين تمّ إضعاف الروابط الجامعة بين الشعوب العربية، ممّا ساعد في تكريس الفكرة القُطرية على حساب الهُويّة العربية المشتركة. وبذلك، كانت الدولة القُطرية مجرّد أداة للاستعمار ولم تكن تعبيرًا عن إرادة الشعوب. وهذا أمر يمكن تلمسه مثلا في منطقة المغرب العربي وما قام به المستعمر الفرنسي من غرس لأفكار عنصرية بين العرب والأمازيغ وتأجيج النعرات العرقية، وتعزيز حضور الثقافة الفرنكوفونية في العديد من دول المنطقة وإضعاف الروابط الثقافية التي تجمع بين شعوب المنطقة.
بعد الاستقلال تم تفويض إدارة الدول إلى عملاء محليين يضمنون استمرار تدفق الموارد الطبيعية والاستمرار في خدمة الأجندة الاقتصادية والاستراتيجية للاستعمار
لقد كانت الدول القومية القُطرية الحديثة في الشرق الأوسط منتجًا استعماريًا خالصًا صمّمه ونفذه المستعمر البريطاني والفرنسي. حتى مصر، رغم تاريخها الطويل، لم تكن استثناءً، فقد كانت تشارك في هذا المشروع، رغم أنّ حالتها قد لا تكون واضحة مثل دول سايكس بيكو أو الترتيبات البريطانية التي أسّست دول وإمارات الخليج. لذلك، فإنّ هويتنا القومية كانت وما زالت هوية مصطنعة، فصلها المستعمر عن هويتنا الأصلية وألبسنا إياها كجزءٍ من خطته الاستعمارية لإبقاء المنطقة مفكّكة.
ولقد أشار تميم البرغوثي في كتابه "الوطنية الأليفة.. الوفد وبناء الدولة الوطنية في ظل الاستعمار" إلى هذه المفارقة التي تعيشها النخب المحلية، فبينما تحاول هذه النخب التخلّص من مظاهر الاستعمار العسكري، فإنّها في الوقت نفسه تُبقي على العلاقة الاستعمارية من خلال التبعية الاقتصادية والتحالفات الأمنية. هذه النخب تقدّم للمجتمعات المحلية وعدًا بالتحرّر، ولكنه تحرّر شكلي لا يتجاوز الاستقلال الاسمي، المعترف به دوليًا، بينما تقدّم المصالح الاستعمارية للحكومات الغربية وعدًا بالحفاظ على مصالحها الاقتصادية والتجارية الحيوية. وهذه العلاقة الاستعمارية تتطلّب وجود جهاز دولة منظّم لضمان الاستقرار والأمن، وهو ما يضمن استمرارية الهيمنة الاستعمارية.
في النهاية، يمكن القول إنّ الاستعمار هو الذي خلق الحدود الوهمية بين الدول العربية، حيث جعل الولاء لتلك الحدود المصطنعة أعلى من أيّ ولاءٍ آخر لأيّ جماعة دينية أو عرقية. وهكذا، جاءت عملية إعادة التسمية الاستعمارية لأهالي المنطقة، حيث تمّ سلب هويتهم الأصلية وتوجيههم إلى هويّة جديدة تخدم مصالح القوى الاستعمارية، في خطوة تهدف إلى طمس الهوية العربية والإسلامية وخلق ما يسمّى بالوطنية الأليفة.