قراءة في مآلات انقلاب نتنياهو الناعم
المشهد المرتبك والزلزال السياسي الذي يجتاح "إسرائيل" ينذر ببلوغ المشروع الصهيوني ذروته، وبدء مرحلة العدّ التنازلي لمسار الانكماش، نتيجةً لتحوّلات عميقة تُنبئ بارتفاع حدّة التناقضات الداخلية، وتفكّك "المستعمرة" تدريجياً في نهاية المطاف.
وما سبق لا يعني بالضرورة أنّ اندلاع صراع عنيف أو حرب أهلية في "إسرائيل" أصبح قاب قوسين أو أدنى، أو أنّ نشوء ديكتاتورية على شاكلتها المعهودة قد بات أمراً وشيكاً، بل الوارد أن يستغرق الحراك وقته حتى تنضج مفاعيله، ثم يحدث الانفجار الكبير، ولكن في المقابل من المؤكد أنّ هذا المشهد في المدى المنظور سينعكس بمزيد من الانتهاكات تجاه الفلسطينيين، سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزة.
من خلال المتابعة الدقيقة للأوضاع الاجتماعية والسياسية في "إسرائيل"، يتضح أنّ المجتمع الصهيوني قد بلغ نهاية مداه تطرفاً وفاشية أكثر من أيّ وقت مضى، كذلك فإنّ تيار الصهيونية الدينية أصبح يمتلك زمام السلطة ويؤمن بنظرية الحسم بالقوة والغطرسة على حساب الحق الفلسطيني، ولذلك يتطلع إلى مراكمة مزيد الهيمنة والتمكين في الحكم، لكي يتمكن من إنفاذ مشروعه بأريحية، مبتدئاً بالعمل على إصلاح النظام القضائي، أو بصيغة أخرى، الحدّ من سلطات القضاء الواسعة، بما يمنح الائتلاف الحاكم هامشاً واسعاً من المناورة، ولهذا اختاروا الذهاب لأبعد مدى في هذا التحدّي الصعب، الذي يُعدّ انقلاباً ناعماً على نظام الحكم الذي أقامه آباء المشروع الصهيوني، والذي يكرّس النظام القضائي كرأس للهرم، وبما يجعله نظاماً شديد الفرادة، ويجعل من "إسرائيل" نموذجاً لـ"دولة القانون" لمواطنيها اليهود حصراً، لدرجة تتجاوز مبدأ الفصل والتوازن بين السلطات الثلاث.
تيار الصهيونية الدينية أصبح يمتلك زمام السلطة ويؤمن بنظرية الحسم بالقوة والغطرسة على حساب الحق الفلسطيني
فالنظام القضائي في "إسرائيل" يستحوذ على نفوذ هائل، يجعله مسيطراً على باقي أذرع الحكومة، حيث يمتلك القضاة سلطات واسعة في ردّ القوانين ووقف أيّ قرارات إدارية، أو أعمال حكومية، قد تصل إلى رفض تعيين وزير، فيما يستخدم قضاة المحكمة العليا مجموعة مبادئ قضائية، من ضمنها اختبار المعقولية لقياس مدى ملاءمة واتساق هذه القرارات ودرجة تحقيقها للأهداف المرجوة منها، دون المساس بالحقوق والحريات والقيم الأخلاقية. ولعلّ هذا المعيار ذا السقف المرتفع بحدّ ذاته يعوق قدرة الائتلاف الحاكم على التحرّك، ويكبح مخططاته ومشاريعه لدرجة كبيرة.
ومن الثابت أنّ المؤسسات العامة كافة خاضعة للرقابة والمساءلة اللصيقة والدورية، حيث تدقق أعمال وقرارات أفراد الحكومة والسياسيين، وحتى قادة وضباط الجيش، بما يشمل حياتهم الشخصية والمهنية، فيتولى المستشار القانوني للحكومة مهمة الإشراف الدقيق على جوانب عمل الحكومة كافة، بينما يقدم مراقب الدولة تقريره السنوي لرئيس الدولة والكنيست حول أداء مؤسسات الدولة ومدى فعاليتها.
ويصل الأمر لدرجة تلاشي حصانة الوزراء والسياسيين خلال ممارستهم لمهام عملهم، بما في ذلك المساءلة الجنائية، ومن ضمنها قضايا الفساد وسوء استخدام السلطة، ففي هذه المنظومة يمكن لضابط شرطة صغير استدعاء أعلى مسؤول في الدولة لمخفر الشرطة واستجوابه، ويمكن للنيابة العامة إيداع لائحة اتهام ضده، بالتزامن مع "حرية النشر".
المجتمع الصهيوني قد بلغ نهاية مداه تطرفًا وفاشية أكثر من أيّ وقت مضى
ولعلّ "الانقلاب الناعم" الذي يقوده نتنياهو وتيار الصهيونية الدينية يُشكل بذوراً لتفاقم أزمة الكيان الإسرائيلي وانزلاقه التدريجي إلى مربعات خطيرة، ستفاقم تحلّل المجتمع الإسرائيلي وانقسامه عمودياً وأفقياً، فضلاً عن ترعرع ظاهرة الإفلات من المساءلة والمحاسبة لمرتكبي الجرائم العامة، ولهذه الأسباب تتصاعد احتجاجات أنصار التيار القومي العلماني والدولة العميقة حتى داخل صفوف الجيش، الذين تراودهم مخاوف جمّة من تهديد وجودي للدولة وقدرتها في الاستمرار على "نهج المشروع الصهيوني العلماني"، وإشكاليات الفرز العنصري بطرح أسئلة الهوية بمعنى "من هو اليهودي؟"، والحفاظ على تماسك نظامها السياسي من خلال حكم القانون. بينما يبقى التهديد الخارجي ماثلاً بفقدان الكيان لـ"وهجه الديمقراطي العلماني" في أعين داعميه في الغرب وعجز الحكومات الغربية عن التبرير لجمهورها مسوّغات استمرار الدعم السخي الذي تقدمه لإسرائيل، في وقت يشهد العالم تغيّرات جيوسياسية تتضاءل معها أهمية "إسرائيل" بالنسبة إلى هذه الدول، بدلالة الموقف الأميركي العلني وغير المسبوق إزاء الأزمة.
بات من الواضح أنّ الوضع الحالي يتطلّب من الجانب العربي والفلسطيني على وجه الخصوص التفكير بجدية في تداعيات هذا الانقلاب اليميني الداخلي وارتداداته الخطيرة على مستقبل الوجود الفلسطيني في ظلّ مخططات الترانسفير (الترحيل) القديمة/ الجديدة، بما يستوجب سرعة التعامل مع الخطر الداهم والتحوّل إلى موقع صناعة الفعل، كبحاً لجماح هجمة قد تتجاوز في وطأتها النكبة الأولى.