قصف جبهة (1)
عرف الأدب العربي -في تراثه وحديثه- الجواب المسكت والقول المُفحم، وهو ما يعرفه كثيرون اليوم بقصف الجبهة، ولهذا الجواب سمات تجعله مطلب كثيرين، لا سيّما من يتصدرون المشهد سياسيًا واجتماعيًا وأكاديميًا وإعلاميًا وقضائيًا، باختصار هو مطلب لكل من له لسان، حتى وإن كان أبكما!
وللجواب المسكت مواصفات خاصة، منها ما يوزن بميزان الذهب ويجري مجرى الأمثال، وهذا يُشترط فيه أن يكون خفيف المحمل على الأذن واللسان، فكلما قصرت العبارة وأصابت المفصل وناسبت الموقف -تمامًا كالأمثال- طربت لها النفوس، وتناقلتها الخواص والعوام في حِلهم وترحالهم، وقد تزيد حلاوة هذه الفئة من الردود وتباغت السائل بجواب لم يتوقعه بحال، فيُدخلونها في عِداد المغالطة على طريقة عبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ) أو يخلعون عليها أسلوب الحكيم -وهي التسمية الأكثر ذيوعًا اليوم- على طريقة أبي يعقوب السكاكي (ت626هـ).
لاحقاً سنقف مع أسلوب الحكيم/الأسلوب الحكيم وقفات طويلة، قد نُعرِّج على نظرية الاستلزام الحواري المخصّص للعزيز بول غرايس (1913 -1988)، ونجمع بينه وبين الجرجاني والسكاكي والشوكاني، لكن المهم الآن أن ما يجمع بين كل الأجوبة المسكتة والردود البليغة -قصيرها وطويلها- يمكن إيجازه في سرعة البديهة وحضور الخاطر، يلخِّصُ ذلك أخو الخلفاء مَسلمة بن عبد الملك فيما ينقل عنه المدائني، إذ يقول "ما من شيءٍ يؤتاه العبد بعد الإيمان بالله أحبُّ إليَّ من جوابٍ حاضر"، لكن العلة التي يسوقها أخو الخلفاء بديعة إذ يُكمل حديثه "فإن الجوابَ إذا تُعُقِّبَ لم يكن له وقع"، والقارئ العزيز يعلم ذلك من نفسه.
قد تدخل في وصلة من النقاش الحاد، وفي خضم الجو المتوتر يغيب عن بالك قولٌ بعينه، يُخيَّل إليك أنك إن قلته جئت بالبعيدة والتايهة وعملت الصح والسليمة، لكن هذه المقولة أو هذا الموقف الذي تعصر مخك لاستحضاره يَحرُن ويتأبَّى عليك، ثم تتذكره بعد الهنا بسنة وبعدما انفضَّ السامر، فما قيمته الآن وقد ضرب من ضرب وهرب من هرب!
كثيرًا ما يكون الغض من شأن الطرف الآخر في التواصل سبب الدهشة عند سماع الجواب، والتقليل من شأن الآخر له مظاهر عدة، منها الاستخفاف به لمظهره غير المتأنق، أو لرثاثة أسماله، أو لانقطاعه عن جواب
النقد عند الحافرة والتعويل في الجواب المفحم يكون لحظيًّا (في الكويكلي، أون تايم، في السريعة المُنجزة)، لا وقت للتأمل، ولا يناسبها بالمرة جو (مقهًى وأنت مع الجريدةِ جالسٌ)، مع التحايا لعمنا درويش.
نطرب -بالتساوق مع إيقاع العصر- للخبر السريع بما فيه من جواب خاطف وقصف جبهة فوري، وبالرغم من ذلك قد تكون القصة متوسطة الطول أو طويلة نوعًا ما وربما تطول كثيرًا لعلة ما، وقد نخرج منها بفوائد جمة إن التمسنا لأنفسنا بعض الوقت وركزنا في فحواها.
نجد مثلًا في حديث عطاء بن أبي صيفي وعبد الرحمن بن حسان بن ثابت قصة متوسطة الطول، ومفادها أن عطاءً مرّ على فرس له بعبد الرحمن، فابتدره ابن حسان بالسؤال: يا عطاء! لو وجدت زمام زقّ الخمر خاليا، ماذا كنت تصنع به؟ (وهذا ليس بالسؤال البريء في شيء، ويستلزم ردًا مُفحمًا وإن طال قليلًا)، فأجابه ابن الصيفي: كنت آتي به ديار بني النجار (قوم السائل) فأعرِّفُه، فإنه ضالةٌ من ضوالِّهم، فإن عرفوه وإلا فإنه لم يَعْدُك.
وكان في طوق ابن الصيفي أن يكتفي بذلك لا سيّما وأنه ألقمَ سائله الحجر وأفحمه وقصف جبهته، غير أنه لم يشأ أن يرد الصاع صاعًا، بل أرادها مقالةً جاهليةً وحكَّم رأسه أن يرد الصاع صاعين مؤلمين؛ فماذا قال؟ شعر ابن الصيفي بالظلم إذ إن صاحبه استخفّ به أول الأمر، والبادئ أظلم، وبعد جوابه عن السؤال عطف بسؤال آخر، ومحدش أحسن من حد!
قال عطاء: ولكن أخبرني أي جَديك أكبر؟ أفُريعةُ أم ثابت؟ أجاب عبد الرحمن بن حسان: لا أدري! وعندها لم يتورع ابن الصيفي عن تبكيت صاحبه وتوبيخه فقال "فلِم يَعنيك ما في كنائن الرّجال وأنت لا تدري أي جديك أكبر"، ثم قرر إيلامه وأن يرمي بالقنبلة في وجهه، وآخر الدواء الكي، قائلًا "بل فُريعة أكبر من ثابت، وقد تزوجها قبله أربعة كلهم يلقاها بمثلِ ذراع البِّكر، ثم يطلقها عن قِلى! فقال لها نسوةٌ من قومها: والله يا فُريعة إنَّكِ لجميلة، فما بال أزواجك يطلقونك؟ قالت: يريدون الضيِّق، ضيَّق الله عليهم".
مادت الأرض بعبد الرحمن بن حسان، وقد بلغ به الإحراج مبلغًا لا مزيد عليه، ربما تذكر مقالة الصدِّيق أبي بكر رضي الله عنه "إنَّ البلاءَ موكَّلٌ بالمنطق"، وأسِف لابتدائه ابن الصيفي هذا الكلام، وغاب عنه أن المسؤول واسع المعرفة مطَّلِع جيد السبك والحبك، والمعرفة قوة، وهنا يكون الجواب خُطافيًا على طريقة أهل الملاكمة قد تكون فيه الضربة القاضية، تترك الفرِح بنفسه يتصبّب منه العرق، عرقه مرقه، أو يقف حائرًا يضرب كفًا بكف من الخزي والذهول كحال مسؤولي سجن جلبوع -شديد الحراسة- أو يشخَب دمًا في مواقف أخرى.
وكثيرًا ما يكون الغض من شأن الطرف الآخر في التواصل سبب الدهشة عند سماع الجواب، والتقليل من شأن الآخر له مظاهر عدة، منها الاستخفاف به لمظهره غير المتأنق، أو لرثاثة أسماله، أو لانقطاعه عن جواب أو ارتباطه بموقفٍ يهز صورته، وقد يكون ذلك استدراجا منه، ولله در القحطاني (ولربما انهزم المحارب عامداً/ ثم انثنى قسطًا على الفرسان)، ولا يغيب ابن جاخٍ الأندلسي عن هذه الحيلة بحال.