قل لي مِمَّ تضحك؟ أقل لك من أنت!
كان ذلك في عزِّ المجاعة التي فرضها الإسرائيليون على قطاع غزّة بمنعهم الماء والغذاء والدواء عن أهلِها المحاصرين، مرتكبين بذلك جريمة الإبادة الجماعية، وفوق ذلك، في رمضان، شهر الصوم، الذي قد يكون بثّ بعض العزاء في قلوبِ الجائعين إجبارياً، بتخيّلهم أنّهم إنّما يصومون اختيارياً. يومها، قامت إحدى رسامات الكاريكاتير الفرنسية المعروفة باسم "كوكو"، تعليقاً على المجاعة برسمِ كاريكاتير صادم، تسخر فيه من جوع غزّة الرمضاني، ما أثار فورة من الغضب لا بل القرف، لدى كلّ المتعاطفين مع محنةِ الغزاويين التي تبدو بلا نهاية.
لا شك في أنّ المهتمين بين القرّاء قد رأوا الرسم المُنتقِد، وهو يصوّر امرأة غزيّة مُحجّبة (ربّما لا تعرف الرسامة أنّ هناك مسيحيين في غزة أيضاً) تصرخ بزوجها الذي يركض خلف جرذ للإمساك به بلهفة الجائع "إياك (أن تأكله) قبل مدفع الإفطار".
لا أعرف إن كان من الممكن أن تدمع عينا الإنسان من الاشمئزاز، لكنّي فعلت. وبالرغم من ذلك تابعتُ النقاشات يومها، متفحِّصةً الحجج التي سيقت بين المدافعين عن الرسمِ ومنتقديه، وردود الفعل الرسمية، بما فيها موقف الصحيفة التي كانتْ، قديماً، الناطقة باسمِ اليسار وصارت ليبرالية يمينية، بعد أن اشتراها المصرفي الفرنسي، إدوارد دو روتشيلد. فمع أنّ الكثيرين طالبوا الصحيفة بسحبِ الكاريكاتير، إلّا أنّها رفضت بحجة حريّة التعبير وبقيت الرسامة في وظيفتها.
فكرتُ كثيراً وحاولتُ أن أتصوّر عقل الشخص الذي رسم. بم فكّر؟ هل كانت في جلسة مع أصدقاء يتندرون و"لمعت" فكرة الرسم في ذهنها (الرسامة) فشاركت أصدقاءها وانقلب الجميع على ظهره من الضحك؟ كنتُ أريدُ أن أفهمَ فعلاً سبب هذا الصقيع الإنساني في قلبِ شخصٍ من المفترض، بصفته فناناً، أن يكونَ فائق الإحساس. لكنه، وبدلاً من ذلك، يُبيح لنفسه أن يسخر، لا بل أن يدعو متابعيه إلى الضحك، من محنةِ بشرٍ مُجوّعين بفعلِ فاعلٍ، يموتون كلّ يوم بأعداد لا حصر لها، لا جوعاً فقط، بل بكلِّ وسيلةٍ تخطر بالبال.
من يمكنه السخرية من محنةِ بشرٍ مُجوّعين بفعلِ فاعلٍ، يموتون كلّ يوم بأعداد لا حصر لها، لا جوعاً فقط، بل بكلِّ وسيلة تخطر بالبال؟
ولأنّي لم أفهم، بقي السؤال معلّقاً في عقلي في غرفةِ الانتظار، إلى أن ضجّ العالم الافتراضي منذ فترة بحدثٍ مشابه، لكن، في خطٍّ معاكس، إن حدّدنا الحدث الفلسطيني كنقطةِ انطلاق.
فلقد ألقى الكوميدي الفرنسي الشهير، غيّوم موريس، وضمن برنامجه على إذاعة فرنسا، نكتة، وصفَ فيها رئيس وزراء إسرائيل، بنيامين نتنياهو، على خلفيةِ جريمة الإبادة الجارية في غزّة، بالقول: "أتعرفون ما هو؟ يشبه نازياً لكن من دون قلفة".
كانت نكتة بارعة، ذات مدلول رهيب باختصاره تحوّل الضحيّةِ اليهودية إلى نسخةٍ قبيحة من جلادها النازي.
وبالطبع توالتْ ردودُ الفعلِ الشعبية والنقاشات، لكن الأهم كانت ردود الفعل الرسمية. فلقد طلبت الإذاعة الفرنسية، وهي مؤسّسة حكومية، من الكوميدي أن يسحب نكتته من التداول، وأن يعتذر، بطلبٍ من "الهيئة المنظمة للإعلام السمعي البصري" المُشرفة على الإذاعة، ومن الصهاينة والمؤسّسات اليهودية الذين تقدّموا بشكاوى بتهمةِ معاداة السامية التي يُعاقبُ عليها القانون الفرنسي، مطالبين بطرد الكوميديان، لكنه رفض. فما كان منها إلّا أن علّقت برنامجه حتى يتراجع، لكنّه أصر.
ومع أنّه يُسجّل للإدارة أنّها لم تدن الفنان بمعاداةِ السامية كما رغبت الشكاوى، إلا أنّ إصرارها على جعله يتراجع ويعتذر عن نكتته لم تكن أقلّ خطورة كمؤشرٍ على ثقل الصهاينة في المؤسّسات الحكومية وخطورتهم على قيم الجمهورية الفرنسية التي أصبح الكثير منها مجرّد كلام فارغ.
لكن، يُسجّل أيضاً أنّ موريس تلقى الكثير من المساندة، ولعل أطرفها وأكثرها تداولاً ما فعلته إحدى المرشحات الفرنسيات لعضوية البرلمان الأوروبي التي تنكّرت بهيئةِ عضو ذكري، وحاولت اقتحام مبنى الإذاعة قائلة لحراس المدخل "ألم تعرفني؟ أنا العضو في نكتة نتنياهو التي لم تكفوا عن الحديث بشأنها لأسابيع. جئت لأقول لكم: طالما أنكم لا تتحدثون عمّا أرتكبه في غزّة، فلا بأس.. استمروا".
لا مشكلة في السخرية، طالما أنها تسخر من السلطة، من الأقوى.. وليس من الضحيّة
استمرّ الأخذ والرد أسابيع طويلة تزايدت فيها الضغوط على الإدارة. ومع أنّ هذه الأخيرة ماطلت، حسب تقديري، في تلبية طلب "الهيئة المنظمة للإعلام السمعي البصري" والمشتكين على الكوميديان من حاخامات وسياسيين شعبويين وحتى زملاء، والمطالبين، بإنهاء مبكّر لعقده، إلّا أنّها في النهاية رضخت، بالرغم من اعتراضِ النقابات. هكذا، أبلغته أمس الأوّل قرارها طرده "بسبب عدم ولائه المتكرّر! (...) وعناده".
ولقد نشر الأخير بعد ما حصل، تغريدة يُهنئ فيها، بالأسماء، من يعتقد أنّهم خلف القرار من شخصياتٍ يمينيةٍ متطرّفةٍ، اتهمته بمعاداة السامية وساهمت في الحملة عليه. وقال في تغريدته "برافو.. هذا الانتصار هو قبل كل شيء، انتصاركم".
ثم ألحق ذلك برسالة مؤثّرة للإذاعة التي عمل فيها 12 عاماً، نقتبس منها "من الآن وصاعداً، كلّ فكاهي يدّعي من منبرك أنّه حر، سوف يثير السخرية. ليس لأنّه لا يستطيع أن يقول شيئاً، لكن لأنّ اختيار النكات سوف يكون له نكهة الاحتفاظ بالوظيفة".
حسناً، ما الفارق بين مشروعية النكتتين؟ وما الذي يجعل من الثانية كاريكاتيراً حقيقياً، في حين يجعل من الأولى وجهاً مزيفاً لحريّة التعبير؟
هذا ما يمكن أن نلمسه ببساطة ممّا قاله أحد المعلّقين على كاريكاتير "كوكو": "لا مشكلة لديّ في السخرية والضحك من أيّ شيء طالما أنّك تسخر من الأقوى، من السلطة، من صاحب القرار، وليس من ضحيته. هذا هو سر تقديسنا كفرنسيين لحريّة التعبير. لكن أن تسخر من ضحايا في أكثر المواقف إيلاماً لإنسانيتنا فإن هذا لم يعد فناً، بل تعبير عن تبلد إنساني، وعن عنصرية مريضة بإنسانيتها. هذا يعادل أن تسخر من صور ضحايا النازية الذين نراهم في الصور أشبه بهياكل عظمية، أو من المقابر الجماعية".
في عام 1993، إثر إعلان اتفاقية أوسلو، سادَ تفاؤلٌ ندمنا عليه فيما بعد، في الأوساط الدولية المعنية بالقضية الفلسطينية. كانت فرنسا الاشتراكية يومها في سدّةِ الحكم بشخص فرانسوا ميتران، وكان هناك قرار بدعم الفلسطينيين تشجيعاً لهم على المضي في طريقِ السلام المزعوم. يومها قام الكاريكاتوريست التاريخي لصحيفة لوموند الفرنسية "بلانتو"، وتعليقاً على فوز فريق فلسطين لكرة القدم بمباراة وديّة دعاه إليها نادي فارييتي كلوب دو فرانس، برسم قائد الفريق الفرنسي ميشيل بلاتيني محمولاً على أكتاف فريقه الخاسر، وهو يصيح وإياهم ببهجة خالصة "لقد ربحوا.. لقد ربحوا".
كان ذلك الكاريكاتير لا يُنسى. لم يكن مضحكاً، بل كان مرهفاً بتعبيره عن لحظة سياسية ومزاج عام. كان مؤثّراً ومعبّراً لدرجة أنّي لم أستطع نسيانه منذ ثلاثين عاماً.
كان هذا في فرنسا التي كانت يوماً، والتي تختفي اليوم، رويداً رويداً أمام أنظارنا، في فم الوحش.