قُبلة وأحمر شفاه
يلفتني دائماً في الأفلام والمسلسلات مشهد القبلة التي تحدث بين رجل وامرأة، وتؤدي إلى تخريب أحمر شفاهها، أفكّر هنا في أحمر الشفاه كمتلصّص من نوع ما، إذ يُمكنه ببساطة أن يكون واشياً جيداً بصاحبته، وذلك عندما تَظهر به وهو في أطوار خرائبه الكبرى، فيكون كمن يقول للآخرين إنّ صاحبته قد حصلت على قبلة حميمة كانت كفيلة بتخريب ملامحه وإحالته من عنصر تجميلي إلى عنصر واشٍ وزائد عن الحاجة ومشوّه.
من المشاهد اللافتة كذلك وتتكرر في الأفلام والمسلسلات، مشهد تعثر فيه الزوجة على آثار قبلة موجودة على قميص زوجها، فتكتشف خيانته لها، أحمر الشفاه هنا أيضاً يلعب دور الواشي، لكنّه واشٍ من نوعٍ آخر، إنّه واشٍ يحضر بصفة كاشف الحقيقة، فهو يكشف عن نفسه ويُظهر ملامحه، ويأتي كمن يحدّث نفسه: "اظهر وبان عليك الأمان"، لا لشيءٍ سوى لأغراض إنصاف الزوجة المخدوعة وإبانة الحقيقة لها.
صفة أحمر الشفاه كواشٍ هي صفة حاولت الكاتبة يم مشهدي الطعن فيها وخلخلتها في مسلسل "قلم حمرة"، فأحمر الشفاه يحضر في المسلسل باعتباره رمزاً لجماليات الأنوثة الثائرة، فبطلة المسلسل وكاتبة السيناريو "ورد"، التي تعارض النظام، وتشارك في المظاهرات ضده، تكون ذاهبة لشرائه، عندما يتمّ اعتقالها ووضعها في السجن.
أحمر الشفاه في المسلسل السابق يحضر شريكاً للمرأة في الثورة والفعل السياسي، وهو في سياقات أخرى يحضر بصفته علامة المرأة الخاصة ودليل فرادتها وتميزها
أحمر الشفاه أو قلم الحمرة في المسلسل هو النقطة الأساسية فيه، هو نقطة انطلاقه التي يتأسس عليها، ويبني أحداثه، قلم الحمرة هنا، هو العمود والهيكل، هو عنصر تجميلي تتزين به البطلة أثناء خروجها في المظاهرات المعارضة للنظام، هو إعلان واضح وجلي، بذلك التزاوج بين الثورة والجمال، وهو إعادة تعريف للفعل الاحتجاجي باعتباره فِعلاً يحتوي على أبعاد جمالية عندما تتزيّن به أنثى وتخرج إلى الشارع، وتنادي بملء شفتيها اللتيْن يحيط بهما دون أن يُمارس دور الرقيب أو يفرض عليهما حدودا معينة في المسموح والممنوع؛ تصرخ بكلّ ما أوتيت في شفتيها من جمال: "الشعب يُريد إسقاط النظام".
أحمر الشفاه في المسلسل السابق يحضر شريكاً للمرأة في الثورة والفعل السياسي، وهو في سياقات أخرى يحضر بصفته علامة المرأة الخاصة ودليل فرادتها وتميزها، قرأتُ مرة بأنّ إحدى الكاتبات العربيات الشهيرات كانت توقّع كتبها لجمهورها بأن تطبع على صفحتها الأولى قُبلة وتترك أثراً من أحمر شفاهها عليها، لا أعرف مدى مصداقية هذا الخبر عن تلك الكاتبة، لكنّ فكرة أحمر الشفاه كتوقيع خاصّ للمرأة هي فكرة جذابة وتستحقّ التوقّف عندها، أقصد ماذا لو تحوّل أحمر الشفاه الخاصّ بالمرأة إلى بصمة وتوقيع لها، فبدلاً من أن توقّع المرأة بيدها توقّع بشفتيها، الفكرة الطريفة هنا بأنّ افتراض ذلك قد يجعل بعض النساء يلجأنَ إلى عمليات تجميلية لتكبير أو تصغير الشفتين، وتكون هذه العمليات بدوافع تبتعد عن الأغراض التجميلية، إذ تأتي بدافع الرغبة في السطو على شكل التوقيع لامرأة أخرى بقصد سرقتها مثلاً!
بكلّ الأحوال، فإنّ محمد منير عندما عبّر في أغنيته "أحمر شفايف" عن حسده لأحمر الشفاه الذي يُزيّن شفتيْ حبيبته "أنا بحسد الكحل اللي كحّل رموشِك، وأحمر شفايف اللي زيّن شفايف"، كان يعي بأنّ أحمر الشفاه الذي يَقع فوق شفتيها يُحدّث نفسه بأحاديث الغرور، لأنّ موقعه الوظيفي يُحتّم عليه أن ينال شرف الوجود الدائم متربّعاً فوق شفتيْ امرأة.