كرة القدم أم ولدنات الطفولة؟
لم تكن لديّ الرغبة في لعب كرة القدم، قصدت هذا المتنفس المعشوشب الذي يقع في وسط المدينة، فقط لكي أركض قليلاً وأقوم ببعض الحركات الرياضية، ولو بشكل أخرق، ثم أقفل عائداً من حيث أتيت. لكن، بينما كنت أمارس تمرينات الضغط، التوت قدم شخص يلعب في أحد الفريقين اللذين يلعبان في الملعب بمحاذاتي، فخرج يعرج، ولم يكن يوجد أحد غيري هناك، فنادوا عليّ وطلبوا مني أن ألعب محلّ صديقهم المصاب.
وجدت نفسي مرغماً على الموافقة بكلّ فرح على اللعب بمعيتهم، غير أنّ هذا الفرح سرعان ما تحوّل إلى ندم، لأنهم في الحقيقة لم يكونوا يلعبون الكرة، بل شيئاً آخر. يركضون جميعاً، دفعة واحدة، خلف الكرة أينما حلّت، وكان هناك ثلاثيني في الفريق الذي لعبت فيه، والذي لم أر في حياتي من هو أفظع منه، يبدو كمن بعقله شيء ما، إذ كلما استبدّ به التعب وتمكن منه العياء، ولم يعد بمقدوره الركض، يمشي مجرجراً قدميه نحوي، أنا الذي وضعوني كمدافع، ليشتكي لي من فظاعة أحدهم، ويطلب منّي أن أمرّر الكرة له دون الجميع.
لا أخفي عليكم أنّي في البداية فكرت في الرحيل، ما لي وصداع الرأس هذا؟ غير أنّي تحمّلت، قاومت هذه الرغبة، لأنّ تركهم أمرٌ لن يكون صائباً.
ثم بعد برهة من الوقت انغمست معهم في اللعب، ولم تعد فظاعتهم تعني لي شيئاً، بل أصبحت تلك الفظاعة هي ما تعطي للمباراة متعتها. أصبحنا نركض جميعاً خلف الكرة، نلاحقها من مكان إلى آخر، نتبعها أينما ذهبت كأنّنا أطفال صغار.
لكن بعد خمس عشرة دقيقة تقريباً، وبينما أنا في قمّة انغماسي، ظهر أحد أصدقائهم، فحملت جسدي وتزحلقت خارج الملعب، كي لا أقول إنهم قاموا بطردي بطريقة لبقة. لم يكن هذا عدلاً، فعندما لم يعودوا بحاجة لي لفظوني كأنني لا شيء! ناكرو الجميل هؤلاء لفظوني من مباراة لعبتها معهم كنوع من الجميل. شعرت بضيق شديد، أفسدوا يومي، كنت مكتفياً بنفسي، لماذا ناديتم عليّ إن كنتم ستقومون بطردي؟!
ناكرو الجميل هؤلاء لفظوني من مباراة لعبتها معهم كنوع من الجميل
وعندها راودتني فكرة طفولية، لا تخلو من حماقة وسارعت إلى تنفيذها دون تردّد. وقفت خلف المرمى الذي هو عبارة عن حجرين، تفصل أحدهما عن الآخر ثلاث خطوات كبيرة، وبقيت منتظراً أن تأتي فرصتي في ردّ الاعتبار لنفسي، فالأمر بات مسألة كرامة، ولم تتأخر هذه الفرصة كثيراً، إذ سرعان ما سجّل أحدهم هدفاً بقذيفة صاروخية.
تظاهرت بأني ذاهب خلف الكرة لأجلبها لهم، وبينما الفريق منشغل بفرحة الهدف، والفريق الآخر منشغل بلوم بعضه البعض، حملت الكرة، في غفلة منهم، وحملت سنواتي العشرين، وركضت مبتعداً عنهم. وعندما فطنوا للأمر كنت قد هربت، أو هذا ما ظننته إلى حين، فعندما شاهدوني أكاد أختفي عن أنظارهم، صاروا أحياء وهم الذين كانوا أمواتاً أثناء اللعب، وكأنّ دماء جديدة ضُخت في عروقهم، تحوّلوا فجأة إلى أبطال خارقين، ركبهم الخاوية أصبحت قوية، وكأنّ كلاباً مدربة تلاحقني وتقتفي أثري. وكلما توهمت أنّي تخلّصت منهم، كنت أجدهم خلفي. وبمرور الوقت بدأت أحسّ بالدوار، كأنّي سمكة خرجت من الماء، لم أعد قادراً على الركض أكثر، أحسست كأني أجري على رمال الشاطئ، ولم أجد من مفرّ سوى رمي الكرة إليهم علّهم يتوقفون عن اللحاق بي.
من حسن الحظ أنهم توقفوا مباشرة بعد أن رميت لهم الكرة، وإلا لكانت روحي، أو ما تبقى منها، ستخرج من جسدي نتيجة الركض المحموم. ولم أتنفس الصعداء إلا حينما اقتربت من الوصول إلى الحي الذي أعيش فيه، آنذاك أخفضت دفاعاتي وتوقفت عن الالتفات خلفي، ثم جلست على صندوق خشبي، لألتقط أنفاسي.
ملابسي أضحت مبتلة بالعرق، كأنّ أحدهم سكب عليّ دلو ماء، لا أذكر أنّي ركضت في حياتي مثلما ركضت اليوم. خضت سباقاً ماراثونياً، من وسط المدينة إلى هامشها. العداء الجمايكي، يوسين بولت، والذي يعتبر أسرع عداء في التاريخ، كان ليسقط مغشياً عليه لو كان مكاني. وفي لحظة ما، لا أعرف كيف استطاعوا اللحاق بي، كلّ ما أعرفه أنني وجدتهم خلفي، وكان عزائي الوحيد أنّي حرمتهم من اللعبة وأفسدت يومهم مثلما أفسدوا يومي، بينما يأكلني شعور بأنّي قمت بأمر سخيف، شعور بات يكبر شيئاً فشيئاً مثل كرة ثلج متدحرجة.