كيف أنام مع "زمزقات" ابنتي؟
اليوم أنا في إجازة، والوقت شتاء، ما أحلى النوم الطويل وليس وراءك عمل. لكن "سالي" في العمل، هذا يعني أنّي سأبقى وحيدًا مع كِندة، ابنتي ذات الشهور الأربعة، ما العمل؟
أكّدت لي سالي قبل أن تغادر، أن البنت أخذت كفايتها، نظيفة الملبس، ملآنة البطن. كل شيء هادئ على الجبهة الكندية، اطمئنوا. طالما تنام شبعانة نظيفة وديعة في سريرها الصغير، فالوضع هادئ والدنيا ربيع والجو بديع، وغن ما شئت من أغاني سعاد. أستطيع إكمال نومي الشتوي الجميل.
لكن، وفجأة، تبدأ الزمزقات، كلمات ليست كالكلمات كما يقول نزار قباني. أصواتٌ ليست كالبكاء ولا اللعب، هي أصوات أخرى تُنطق فيها الهمزة والعين نطقًا تامًا فصيحًا. أشعر أحيانًا أنها بلغةٍ معروفة لكني لا أفهمها. تعلو الزمزقات تدريجيًّا، اطمئنوا رجاءً، ما زال الوضع هادئا، يمكنها الرجوع للنوم، أقسمت لي سالي ذات يوم، أن تلك الزمزقات مجرد أحلام، اطمئن يا أحمد لن تستيقظ كندة.
ظهرت وسط الزمزقات دمعة، هنا انقلب كل شيء، يا ستّار. ألجأ للحل الأول في محاولة إبقائها نائمة، أهز السرير. يروح ويجيء، يزمزق هو الآخر كالمراجيح ليلة العيد. وأراقبها بعيني النصف مغمضة. تسكت لبرهة، ما زال هناك أمل. آخذ نفسي مستريحًا وأهوي برأسي لأنام. لكنها تلتفت ناحيتي بخديها المورّدين، وتفتح عينيها ببطءٍ كمحارةٍ تُري لؤلؤتها النور، تبتسم ويبرز خدّاها، وأكتشف ابتسامتها كل مرة، كأول مرّة. ما أجملكِ يا صغيرة.
تبكي مجددًا. أرفعها من السرير إلى كتفي، لا ترتاح، أُجلسها على قدمي القرفصاء. يستمر البكاء، أحاول مداعبة خديها، تسكت لثانيتين، ثم تبدأ من جديد في البكاء والزمزقة. ماذا أفعل يا ناس؟
نعم، وجدتها، سأضع وسادتين فوق بعضهما البعض، وأُسند ظهرها عليهما كي تراني وهي جالسة. تسكت أخيرًا، وتضحك. لكنها تُحرّك رأسها بصعوبة فتنظر يمينًا ويسارًا
نعم، وجدتها، سأضع وسادتين فوق بعضهما البعض، وأُسند ظهرها عليهما كي تراني وهي جالسة. تسكت أخيرًا، وتضحك. لكنها تُحرّك رأسها بصعوبة فتنظر يمينًا ويسارًا، لم أعرف السبب، لكني عرفته بعد دقيقة واحدة، أمها ليست هنا، هذا إعلان حربٍ واضح.
بدأت نوبة البكاء الرئيسية، رفعتها بين يدي نائمًا، وهدهدتها جالسًا، وسرت بها في الشقة مترجلًا. أظلمت الغرفة ساعةً، وأخذتها تحت الشمس ساعة، أنمتها على بطنها مرّة، وربت على ظهرها مرات. لكنها رغم كل ذلك، لم تتوقف عن البكاء. ربما جوعانة؟ بالطبع لا، فلم يمر وقتٌ طويل مذ رحلت سالي. حاولت أن أطعمها الزبادي. نظرت لي بقرفٍ كأنّي ارتكبت جناية. ما زال البكاء مستمرًا. لا بد من حلٍ آخر.
فتحت هاتفي وبحثت عن "كاك كاك، سو سو سو" نعم كتبتها هكذا في بحث اليوتيوب. ما أذكاه، فهم قصدي بسهولة. ظهرت الأغنية في مقدمة النتائج فشغلتها بأعلى صوت، وظللت أرقص أمام "كندة" كالبهلوان: "أنا الفرخة وإحنا الكتاكيت. أنا الفرخة وإحنا الكتاكيت". نعم يا سيدي، أنا الفرخة بس هي تنام.
ضحكَتْ وسط بكائها، نعم، وسط بكائها والله، أنا ألفت تعبير وجه. أهذا وقت التعلم يا كندة؟! كيف تضحكين وسط البكاء يا مفعوصة. ذكّرتني بالطفلة الصينية التي كانت تبكي وسط عرض راقص بمدرستها. لكنّي أريد النوم يا كندة، أرجوكِ اسمحي لي.
هنا، فكّرت في الحل النهائي، أن أرسل رسالة لأمها، الحقيني، الحقيني بجد. والله لم أنم إلا لثلاث ساعات. تجيبني سالي بمقطعٍ صوتي قصير، عشر ثوانٍ فقط، توجه فيه الكلام لكندة لا لي:
"يا كوكو أنا جيالك أهو يا بابا، ايه يا بيضا، ما تزعليش".
نعم، هكذا فقط، لكن المعجزة حدثت، أي والله حدثت. سكتت البنت، سكتت بعد كل هذا البكاء والعويل والصراخ والنحيب، وكل ما قالت العرب في الحزن. وهنا، نمت مرتاحًا ويدي على زر تشغيل المقطع الصوتي، كلما انتهى شغلته: "يا كوكو أنا جيالك أهو يا بابا، ايه يا بيضا، ما تزعليش" وظللت هكذا، حتى جاءت سالي بسلام، وعمّ الوئام، واستقبلني النوم بحضنٍ وافر، وفاجأتني الأحلام بجميل المقام. أخبرني، من يشك في أن الجنة تحت أقدام الأمهات؟!