كيف خذل قيس سعيد التونسيين؟
تتوالى خيبات الديمقراطية في تونس، آخرها وأفجعها الدستور الجديد، الذي أسقط دستور الثورة التوافقي وأنهى تجربة الانتقال الديمقراطي المتعثر. لكن كيف انتهى قيس سعيد الرئيس المنتخب والذي حظي بثقة فئات عريضة من التونسيين إلى هذا المسار؟
لعل بداية التحول يعود لأزمة تعيين رئيس الحكومة، كانت صدمة الرئيس الأولى، فلا الحبيب الجملي رئيس الحكومة الذي اقترحه وافق عليه مجلس النواب، ولا إلياس الفخفاخ رئيس الحكومة الذي توافقت عليه الأحزاب استمر في منصبه أكثر من ستة أشهر، بعد أن استقال بطلب من الرئيس لشبهات فساد وبضغط من حزب النهضة. وبالرغم من وصول هشام المشيشي لقيادة حكومة من الوزراء المستقلين، فقد استمر التجاذب السياسي داخل البرلمان المنقسم، وفي ظل أزمة اقتصادية خانقة تعمقت مع وباء كورونا. هذه الحكومة التي سرعان ما طاولها التعديل أيضاً بعد ستة أشهر من تعيينها، رفض الرئيس استقبالها في تأكيد صريح على أزمة بين رأسَي السلطة التنفيذية، تراكمت في خضم صراع حول سلطاتهما وتحالفاتهما السياسية. تبعاً لذلك، لم ينتظر قيس سعيد إلا ثلاثة أشهر قبل أن يقيل الحكومة ورئيسها في سلسلة إجراءات استثنائية بدأ في فرضها منذ 25 يوليو/تموز 2021، شملت حل مجلس القضاء والبرلمان.
الأكيد أن الرئيس فهم اللعبة جيداً، فاستقلاليته السياسية، كانت مِيزتُه وضعفه في آن، فهي البطاقة التي منحته أصوات أغلب التونسيين، لكنها القيد الذي عزله سياسياً. وقد زاد من عزلته فشله في التوافق مع مختلف القوى السياسية، وعدم قدرته على توجيه الحكومة أو حصوله على دعم البرلمان. لكن الاستفراد بالقرار بِمباشرة التشريع بقرارات جمهورية، وعزل القضاة، وتعديل الدستور، قد أسس فعلياً لنظام أوتوقراطي مُنهياً كل آمال الثورة.
إن تفاصيل الثلاث سنوات الأولى من حكم سعيد هي ما يفسر أسلوبه في الحكم اليوم، ودوافع قراراته المرتبكة بما فيها الدستور الجديد، فالواضح أن الرئيس اقتنع بأن تأمين ولايته الرئاسية لا يكون إلا بممارسة صلاحياته بدون تقييد أو مشاركة أي جهاز آخر. لقد أصبح الدستور الجديد بمثابة أداة لتأسيس نظام لا يعلو فيه صوت فوق صوت الرئيس ولا يعارض فيه أحد قراراته. وذلك يتضح من خلال عدة نصوص شملها الدستور الجديد، فعلى سبيل المثال ألغى الفصل 41 حق القضاة في الإضراب، ولعل ذلك في علاقة مع موجة إضراب القضاة الواسع في تونس، وركز السلطة التنفيذية في يد الرئيس، من خلال الفصل 87 الذي نص على أن رئيس الجمهورية يمارس الوظيفة التّنفيذية بمساعدة حكومة يرأسها رئيس حكومة، كما أن الرئيس هو من يعين الحكومة وأعضاءها كما ورد في الفصل 101 ويُقيلها حسب الفصل 102، أما الفصل 112 فقد أكّد على أن هذه الحكومة هي مسؤولة أمام الرئيس وأنها تشتغل وفق التوجهات والاختيارات التي يحددها الرئيس (الفصل 111). وبالتأكيد فهذه الفصول هي تُحاول إخضاع الحكومة وأعضائها لسلطة الرئيس، خاصة بعد تجربة قيس سعيد مع حكومة المشيشي التي لم يُوافق على أعضائها ولم يتوافق على رئيسها. كم سلب الرئيس صلاحيات أخرى لرئيس الحكومة، أبرزها التعيين في الوظائف العليا المدنية وتقديم مشاريع القوانين.
وفي خضم هذه التراجعات الكبيرة عن الحقوق والحريات التي كرسها دستور 2014، وبالانحراف الواضح لمبدأ الفصل والتوازن بين السلطات، أسقط الدستور الجديد مجموعة من الهيئات الدستورية، من بينها هيئة حقوق الإنسان وهيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد، كما أسقط الفصل 88 من دستور 2014 والذي كان يمنح مجلس النواب وبموافقة المحكمة الدستورية صلاحية إعفاء رئيس الجمهورية في حالة أجل الخرق الجسيم للدستور. ومما لا شك فيه أن من أسباب تعطيل إخراج المحكمة الدستورية هذا الفصل خاصة مع الأزمة التي طبعت علاقة الرئيس قيد سعيد بالبرلمان.