كيف نجا أبو لطفي من الموت؟
(سيرة الظرفاء 10)
بعد السلام والتحية، والسؤال عن الصحة، قال أبو سعيد إنه متعاطف جداً مع بطل حكايتنا "أبو لطفي السَمْبَتيك" الذي أرغمه أفرادُ "شلته" على السفر، في يوم شتائي ماطر، إلى قرية الشيخ صطوف، تلبية لدعوة المختار أبو حافظ.
قلت: دعنا نستأنف سرد الحكاية. كنا قد توقفنا في الطريق بين قريتَي البلاطة والشيخ صطوف، ورأينا كيف السيارة علقت بالوحل، وأعلن السائق أبو برهو الصجّ أن إخراجها يحتاج إلى جرار زراعي (تركتور)، وعندما شاهد الأصدقاء تركتوراً قادماً من طرف قرية الشيخ صطوف، اعتقدوا أن هذا الأمر حصل بالمصادفة، ولكن سرعان ما تبين لهم أن المختار أبو حافظ كان قد ذبح الخروفين، وبدأت النسوة في داره بتحضير الطعام، وجلس مع أعوانه ينتظرون وصول الضيوف، ولكن أحد أبناء القرية جاءه، وأخبره بأنه شاهد، من منزله المرتفع، سيارة متعطلة في الطريق، فعرف أنها سيارة ضيوفه، فطلب من ابن أخيه ماجد أن يذهب بالتركتور لمساعدتهم، ونقلهم إذا لزم الأمر إلى القرية. ماجد، الذي وصل إلى حيث يقف الأصدقاء بجوار السيارة المتعطلة، ربط السيارة الموحلة بكابل نحاسي، وشدها بقوة، فخرجت من الوحل، وقال للأصدقاء اطلعوا، فطلعوا، ولكن سرعان ما واجهتهم مشكلة أخرى، فقد تبين أن وقوع السيارة في الوحل كان قد جعل خزان الزيت يصطدم بصخرة ناتئة، فانبعج، وأصبح تشغيل المحرك خطراً، ربما يؤدي إلى احتراقه، وهكذا كان لا بد من ترك السيارة في مكانها، وركوب الأصدقاء في التركتور، وهنا تَدَخَّلَ أبو لطفي قائلاً إنها فكرة جيدة، ولكن بشرط أن يقلهم التركتور إلى قرية البلاطة، ومن هناك يستأجرون سيارة ويعودون إلى إدلب، وعندما بدأ أبو سليم يرمقه بنظرات نارية، استدرك قائلاً: وبالنسبة للخروفين اللذين ذبحهما الأخ أبو حاتم، قصدي أبو حافظ، فليأكلهما هو وعيالُه وأقاربُه، ويمكنه أن يرسل رطلاً أو رطلين من اللحم لأخينا وحبيبنا أبو سليم، فيفترسهما، ونحن، بدورنا نسامح أبو سليم بحصتنا من اللحم.
سألني أبو سعيد: هل وافقوا على اقتراح أبو لطفي؟
- لا، طبعاً، وقد اضطروا للركوب "على الواقف" بجوار سائق التركتور، ولعله من حسن الحظ أن قرية الشيخ صطوف لم تكن بعيدة، ومع ذلك، فقد وصف أبو لطفي الرحلة بطريقة شاعرية، فقال: كان التركتور يقوم ويقعد، ونحن نقفز إلى الأعلى، وننزل مثل السعادين، والريح تصفر، وتلسع وجوهنا، والعجلتان الخلفيتان كانتا تحملان الطين من الأرض، وترشقاننا به، وهذا كله لم يؤثر على أفراد شلتنا المحترمين، لأنهم كانوا "يحلمون" بالوصول إلى السفرة الممدودة، وعليها مناسف الرز والفريكة وكراديش اللحم، وأما أنا، محسوبكم المغلوب على أمري، فقد وصلتُ على آخر رمق، وعندما نزل الشباب من التركتور، عَبَّرَ أبو حافظ وجماعته عن فرحهم بهذا الأمر الجلل، بأن أخرجوا مسدساتهم، وأطلقوا النار في الهواء، وبدأ الطبال يضرب على طبله، والزمار يعزف، والرجال يدبكون، والنسوة يزغردن، وأما أنا فكنت متقوقعاً على نفسي مثل (الزلحفة)، وكل طلقة خرجت من مسدساتهم كنت أشعر وكأنها تنزل في قلبي، وللأمانة، كان بين أصحاب أبو حافظ رجل ذو قلب طيب، رآني دائخاً، فهرع إلي، حملني على ظهره، وركض بي إلى الدار، ودخل بي إل غرفة تشبه الحَمَّام، فيها قدر مليء بماء يغلي، وراح يغطس خرقة بيضاء بالماء الساخن، ويمررها على وجهي، ورجليَّ اللتين قرنستا من شدة البرد، وقدم لي ماء عذباً، شربت منه قليلاً، وبالفعل، شعرت بالدفء، فصحوت، وأظن أنني، لو لم يحصل هذا، لكنت قضيت نحبي في هذه السفرة التاريخية.
بعد عودة الأصدقاء إلى إدلب؛ روى لنا أبو لطفي السمبتيك تفاصيل تلك الرحلة العجيبة بطريقة آسرة، قال: بالنسبة للناس الطبيعيين، الأمر عادي، أما أنا فيمكنكم أن تعتبروني إنساناً شاذاً. حينما دعينا للتحلق حول السفرة الممدودة على الأرض، نزل أصدقائي، وباشروا الزلع والبلع والقرض والشَرْق، بطريقة إما قاتل أو مقتول، وأما أنا فلا أستطيع ثني ركبي ولَفِّ ساقيَّ، ومعتاد أن أجلس في داري بجوار طاولة مخصصة للطعام، أضف إلى ذلك أن كردوش اللحم الواحد أقسمه إلى ثلاث قطع، آكل منه قطعة كل يومين، وأما في مضافة الأخ أبو حافظ المبتهج بالحدث العظيم، زواج ابنه حافظ، فالضيف ليس حراً في مراعاة خاطر معدته، فكانت الأيدي تحمل كراديش اللحم الدهنية المتربعة فوق سقف مرتفع من الفريكة والرز والصنوبر المقلي، وتقذفها أمامي، وابن أخيه الجالس بجوار تولى أمر نخزي في خاصرتي، وهو يقول: صحتين عمي أبو لطفي، وعبارة (صحتين)، لعلمكم، مجازية، بدليل أنني، بعد عودتنا بالسلامة من تلك السفرة، وقعتُ طريح الفراش ثلاثة أيام بلياليها، وأنا غير مبال بالمرض، هل تعرفون سبب عدم مبالاتي؟
- ما هو؟
- أنني كنت قد وضعتُ نصب عيني أننا هالكون بين قريتي البلاطة والشيخ صطوف، في الذهاب، أو الإياب، أو من الكراديش التي أرغموني على تناولها، أو من رائحة البصابيص المشتعلة، فماذا يهم هذا المرض العابر؟
سألته: ما هي البصابيص؟
قال: هناك، في قرية الشيخ صطوف، اعتقاد بأن لحم الخرفان مع الرز والفريكة المسقية بالسمن العربي، تفتح النفس على التدخين، ولذلك، حينما جلسنا نتسامر، ونعبّر عن فرحنا بزواج حافظ ابن أبو حافظ، بدأت السجائر تشتعل في المضافة، بشكل جماعي، وكما تعلمون، أنا في حياتي لم أدخن، ولكنني، في ذلك الجو البهيج، دخنتُ كثيراً مما كان المدخنون ينفثون في الفضاء المغلق، وصرنا بين أمرين أحلاهما مر، الأول أن نفطس من شدة التدخين، والثاني أن نفتح الباب والنوافذ، فنقرنس من البرد، وبالنسبة لي، هل تعلمون ماذا فعلت؟
- ماذا؟
- تشاهدتُ على روحي، وسلمتُ أمري لله، وصار جسمي يكش، وما عدت أرى بعينيّ شيئاً مما يجري حولي، وصرت أرى، في جو ضبابي رهيب، السجائر المشتعلة كما لو أنها بصابيص من نار.. وفي الحقيقة أنا لا أستطيع أن أحكي لكم ما جرى بعد هذا، لأنني غبت عن الوعي، وفي صباح اليوم التالي، وجدت نفسي نائماً في غرفة طينية، وبجواري أفراد شلتي، وصرت أسمع خرير صدر أبو سليم الذي شاهدته، في المساء، وهو يفتك بضلع الخروف المسلوق!
(اكتملت الحكاية)