لا أرى.. لا أسمع.. لا أتكلم
على غرار "إيموجي" القرد الشهير، بحركاته الثلاث، أتخيل أنظمةً عربية تغمي عينيها، وتسد فمها، وتصم أذنيها، عما تؤول إليه الأمور في غزة، وعما تنزلق إليه الأوضاع، وعما وصل إليه الثابتون في الشمال، وقد أدوا ما عليهم وزيادة، ليهجرهم العدو فرداً فرداً وبيتاً بيتاً، ويمشط حارة حارة وشارعاً شارعاً، ويجمعهم من مراكز الإيواء ليقصفهم في ممرات "آمنة"، ويحرق المدارس والمقرات، وتسيل دماؤهم على السيراميك والإسفلت والأرصفة، وتتناثر أشلاؤهم على الأسقف والجدران والهواء، وبصمودهم وحدهم وبتضحيات الغزيين وبسالة المقاومين فشلت مخططات التهجير حتى اليوم، ليس بتصريحات رؤساء، ولا "ممانعة" زعماء وحكومات، ولا ببروباجندا أكل الزمان عليها وشرب، لتأتي الأيام بما حذر منه الصادقون المحاصرون طيلة عام كامل، وهم يصنعون معجزة بالصمود أسبوعاً واحداً، فكيف بمعجزة متكررة لأكثر من خمسين أسبوعاً؟
والأنظمة كما هي، لا تحرك ساكناً، وأرض عربية تحتل تقريباً لأول مرة منذ عشرات السنين، لكن هذه المرة ليست بعد انهيار جيوش، ولا قصف مطارات، ولا فشل خطط عسكرية، وإنما بعد قتال فردي من غزة المنهكة، وهي تدفع ثمن خذلان عشرين دولة وحدها، وهي لم تتخيل -كما لم تتخيل عدوها- أن تكون النذالة الرسمية بهذه الدناءة والوضاعة، فأهملوها كأنها لم تكن، وتركوها كأن مليوني إنسان فيها لم يسكنوا بها يوماً، وكأنها مدينة أشباح لن يفرق مع العربي إن احتلت أو تحررت، ولمَ يشغل باله وهي خاوية على عروشها؟ فكل ذلك الصراخ القادم منها، إنما هو بفعل عفاريت الليل، وأشباح النهار!
يعاني أهل غزة اليوم الجوع، والبرد، والعطش، والخوف، والفقد، والمرض، والموت، والجرح، والألم، والعراء، والمجهول، والتعب، واليأس، والهم، والكرب، والحزن، والوحدة، والوحشة، والخذلان، والزلزلة، والضراء، وللمفارقة فإن نصف هذه الكوارث قد لا تكون موجودة.
يعاني أهل غزة اليوم الجوع، والبرد، والعطش، والخوف، والفقد، والمرض، والموت، والجرح، والألم، والعراء، والمجهول، والتعب، واليأس، والهم، والكرب، والحزن، والوحدة، والوحشة، والخذلان، والزلزلة
وقد تحل في يوم واحد، إن كانت دولة واحدة في الجوار، فتحت منفذها الوحيد على فلسطين، ومنفذ غزة الوحيد على الحياة والعالم، فعبرت منه من المساعدات رغم أنف العدو، الذي لم يكن ليتخيل من البداية أن تكون سيادة هذه المسألة في يده، لكنه فوجئ بذلك "الكرم" الوفير، فقال ولمَ لا؟ لن ندخل المساعدات إلى غزة! وقد كان أهل غزة طوال عشرين عاماً يظنون أن المعبر مصري، لكن مصر فاجأتهم في وقت قاتل، بأن مصر نفسها ليست مصرية هذه الأيام.
ويظن الحمقى أن الأمور ستتوقف هنا، وأن كرة النار ستقتلع هذه الأشجار وزراعها وحسب، ولن تمتد بلهبها إلى غابات أخرى وأراضٍ عربية مجاورة، لكنهم سيتفاجؤون ذات نهار بالمقاتلات الإسرائيلية في أجوائهم، وبالدبابات على مشارف بلداتهم الحدودية، والغارات في قلب عواصمهم، وسيتعجبون لمَ هذا وقد أدوا ما عليهم وزيادة من فروض الولاء والطاعة للعدو الشره؟ وهم يجهلون أو يتجاهلون أن مصاص الدماء لا يفرق بين الضحايا، حتى هؤلاء الذين سبحوا بحمده، وقالوا إنه أعظم مصاص دماء في العالم!