لا تأكل من شجرة الكرز يا نبهان (5)
بناء على اقتراحي، أنا أخوكم أبو المراديس، تركنا سيرة الجنون جانباً، وفتحنا سيرة العقل، مع أن السيرتين لا تتجزآن. قلت للساهرين السامرين إن أحد متابعي هذه السلسلة الحكائية، وهو الصديق "طارق أبو شعر"، وجه إلي سؤالاً مهماً، بعدما اطلع على حكاية الشاب نبهان (طَقّ مصَدّ)، وما جرى له عقب إقدامه على اقتحام حديقة دار عمه. السؤال هو:
- هل يجب علينا نحن القراء أن نتعاطف مع هذا الشاب بعدما اقتحم حرمة دار عمه، دون مسوغ منطقي، وقام بأعمال تخريبية عنيفة؟
حنان: والله هالسؤال رائع، أنا طول الوقت كنت متعاطفة معه نبهان، مع إني برفض شغل التخريب بالجملة وبالتفصيل.
أبو المراديس: أول شي أنا بتشكر الصديق طارق على ملاحظته، تاني شي، أنا عندي جواب بعتقد أنه شافي ووافي عن هادا التساؤل، وهوي إني نحن، خلال هالحكايات، عم نصور بيئة متخلفة لأبعد الحدود، والإنسان في هالبيئة مقهور، ومسحوق، ومحروم من الرعاية، ومن التربية الصحيحة.. والتخلف الشديد، بحد ذاته، بيستاهل التعاطف.
أبو ماهر: شلون التخلف بيستاهل التعاطف؟ ممكن تعطينا مثال؟
أبو المراديس: بدي أعطيك أكتر من مثال. لما كنا عم نحكي عَ المرحوم أبو بكار، وقلنا إنه كان بيمتلك أراضي وعقارات قيمتها ملايين الليرات، ومع ذلك ما بيحب ياكل ويشرب وينبسط هوي وعيلته الزغيرة، وكان يضطهد ابنه الوحيد، ويحرمه من العيش الكريم ومن الخرجية.. برأيكم هادا الإنسان ما بيستاهل الشفقة؟
أم زاهر: مبلى. وصار بيستاهل الشفقة أكتر لما شفنا إبنه عم يعاملُه بالمثل، وما عمل له اللازم أثناء التعزية، وكأنه كان عم ينتقم منه، بعدين صار إبنه يبدد الثروة اللي ورتها عنه بطريقة غريبة.
أبو المراديس: طيب سؤال تاني. أبو خالد اللي بيضرب ولادُه بالبريم (العقال) بدون مناسبة، وفي مرة من المرات ضرب إبنه على عينه وكانت النتيجة إنه العين انعطبت.. برأيكم هادا مو إنسان مريض نفسياً وعقلياً وبيستاهل التعاطف؟ خلونا نجي هلق للمثال اللي انطلقنا منه. بالنسبة للشاب نبهان، نحن كنا مصنفينه بخانة (العاقل / المجنون).. وبهيك حالة نحن ما فينا نجزئ سلوكه، يعني، مثلاً؛ مو معقول نحبه لما بيصدر عنه تصرف متوازن، ونكرهه لما بيجن.
أبو محمد: على سيرة جنون نبهان، أنا بتمنى من أبو الجود يحكي لنا أيش صار معه بعدما أسقط عمه فاضل حقه الشخصي عنه.
أبو الجود: كنت مفكر ننهي الموضوع، ونختصره، لكن بهالوقت هادا صارت شغلة غريبة كتير.
حنان: أشو صار؟
أبو الجود: عم نبهان، الحاج فاضل، دحش الـ 200 ليرة اللي عطاه إياها بكار في جيبه، وراح من الصبح على معرتمصرين، ودخل ع المخفر، وقال للشرطة أنا بدي أسقط حقي عن ابن أخوي نبهان. رئيس المخفر جاوبه إنه إسقاط الحق هلق مو عندنا، ونزل معه، وراحوا سوا ع المحكمة، وفتحوا الإضبارة، وأسقط فاضل حقه، ومشي. بعد شوي أجا بكار، ودخل لعند القاضي أيمن، وذكّره بوعده إنه يساعد نبهان، وأيمن قال له:
- اترك لي الموضوع يومين أو تلاتة، لازم أتصل مع المحامي العام في إدلب، وأشرح له ملابسات القصة، حتى إذا أنا أصدرت قرار إخلاء السبيل ما يتدخل رئيس النيابة ويستأنف القرار، لأنه إذا صار استئناف راح يبقى نبهان مسجون لبينما تنتهي المحاكمات في محكمة الاستئناف. وبلا طول سيرة، بعد شي تلات أيام اتخذ الأستاذ أيمن قرار بإطلاق سراح نبهان. ولما طلع، كانوا الشباب العاقلين المجانين واقفين على باب المحكمة، وصاروا يصيحوا:
- أبو صطيف عشقنا، دوس، دوس، هيه، والدار ما هي لنا، الدار للي بناها، بناها أخونا بكار وبسيفه حماها.. وركضوا على نبهان، وصاروا يتباوسوا، ويباركوا له بطلعته من السجن بالسلامة، وما حدا بيعرف كيف أجا الطبال أبو خليل والزمار أبو يوسف من الحارة الغربية، وتجمعوا الناس عند الحديقة اللي بيسميها أهل معرتمصرين (البَكْجَا)، واشتغلت الدبكة، وصاروا الناس يكتروا، والنسوان تجمعوا على أساطيح الدور القريبة من البكجا، وكان واحد بين الموجودين صوته كويس، حط إيده على إدنه، وصاح موال "يا راكب الحمرا كناطير- سلم على حباب قلبي قناطير".. وكان واحد من مجانين معرتمصرين بيحمل لقب "خود عني جيتك" موجود، من لما خلص الموال، سحب مسدس من زناره، وأطلق رصاص بطريقة بتوحي بأنه هاي أول مرة حياته بيشيل مسدس وبيطلق نار، وعلى الفور اتجهت الأنظار على سطح دار قريبة، لأن اشتغلت الولاويل، والجموع اللي كانت قدام المحكمة بلشت تتماوج، وناس تركض باتجاه الغرب، من زاروب دكان مصطفى حمدي، وناس راحوا شمال، من طرف قهوة علي عبدان، وناس راحوا مشرق، والطبال والزمار ركبوا طرطيرة وراحوا باتجاه شركة الكهربا، وفي نسوان نزلوا وهني ساحبين المَرَا اللي تصاوبت، والمجنون "خود عني جيتك" هرب، ومعرتمصرين كلها انخبطت، وصارت، على قولة المتل: جوف حمار.
كمال: برجع وبأكد لكم إنه أبو الجود معلم في رواية القصص. خيو، وهالملحمة العجيبة أشو صار فيها بعدين؟
أبو الجود: كان مدير الناحية قاعد في مكتبه، وسمع إطلاق النار، واتصل برئيس المخفر، وسأله أيش صاير؟ قال له: والله يا سيدي صايرة مشكلة قدام المحكمة، هلق بعتت دورية شرطة لنشوف. ولما عرف مدير الناحية بالشي اللي صار، وأن المَرَا اللي تصاوبت صارت في المستشفى الوطني بإدلب، وإنه الطبيب أعطاها معاينة تانية مدتها 72 ساعة، بعت خبر لبكار أنه يمر لعنده بسرعة، ولما أجا بكار طلب منه يغيب عن معرتمصرين بهالفترة، لأن ممكن أهل المرا اللي تصاوبت يعتبروه متسبب بالشي اللي صار، ويا ريت ياخد معه الشباب، حتى ما يتشاجروا مع حدا والقصة تكبر..
بكار: أشو رأيك آخدهم ونروح ع قريتنا البلاطة؟
أبو عمر: لا بأس. وأنا يبقى بمر لعندك ومنشرب قهوة، وبحكي لك شو بيصير أول بأول.
بكار: يا ريت تجيب معك العيال، خلينا نكسبكم بشي عشا وسهرة.
(للقصة تتمة)