لا تلحقني.. أنا أكافح الفساد
يتحدث إعلاميو الأنظمة الديكتاتورية عن "الفساد"، ويعتبرون ذلك نوعاً من المراجل، بل الفتوحات الكبرى. هذا الكلام ينطبق على إعلام النظام السوري بشكل كبير.. فكثيراً ما كنا ندخل إلى أحد مكاتب صحيفة سورية، (وهنّ ثلاث صحف، كما تعلمون، البعث والثورة وتشرين، فقط)، فنجد صحفياً جالساً وسط لفيف من المحررين الصغار المساكين، وهو متكبّش، ومتنفّش مثل الديك الهندي، يترنم، ويتباهى بإنجازاته ومراجله في مجال مكافحة الفساد، فكأنه متخصص بهذا الشأن مع درجة (البورد) من أميركا، ولولا الحياء لكتب على مؤخرته، على منوال السيارات الشاحنة "قاطرة ومقطورة":
لا تلحقني.. أنا أكافح الفساد
الفاسد يتألم، ومكافح الفساد يترنم
ومستمعوه، المحررون الغلبانون الذين ينتظرون رأس الشهر بصبر نافد حتى يقبضوا راتبهم الهزيل مع قليل من التعويضات الإضافية، يطيّبون له، (غصباً عنهم، فهو من عظام رقبة النظام) ويحمسونه، وينخونه، وهو يزداد انتفاشاً، ويتمادى في عرض مآثره في مكافحة الفساد، تطبيقاً للمثل الشعبي القائل: (انفشُهْ، وشوف ما أجحشُهْ)!
أية رجولة، يا عين عمك، إذا كنت تغض الطرف عن الديكتاتور وعائلته وحاشيته والمحسوبين عليه، وتتجاهل سرقاتهم، وتجاوزاتهم، وترحيلَهم أموالَ الوطن إلى بنوك سويسرا، وتهجم، بأسلحتك الدونكيشوتية الفتاكة، على رئيس بلدية صغيرة، قابعة في أقصى شمال سورية لأنه سرق خمسمئة ليرة؟ أو تعمل وتترك بموظف تعبان، بنطالُه زاحل، وجاكيته ذو موديل أوربي (لأنه من البالة)، ووجهُه بعرض إصبعين، وتنكّل به، وتلعن سنسفيل الذين خلفوه، لأنه اختلس كم ليرة من صندوق مديريته لكي يشتري ربطة خبز وربطة بقدونس لعياله؟
أذكر أنني التقيت صديقي الأديب الحلبي الذي استدعي للتحقيق بسبب مقالته، سألته همساً: أيش صار معك في الفرع؟
ثمة حكايات كثيرة تتحدث عن فساد مكافحي الفساد. منها هذه:
كنت، أنا محسوبكم، في إحدى السنوات (أظنها 2005، أو 2006) أنشر مقالات ذات طبيعة ثقافية في إحدى الصحف الثلاث، وكان مسؤول قسم الثقافة منخدعاً بي، معجباً بمقالاتي، ينشرها فور وصولها إليه، وذات يوم أرسلت إليه مقالة أتحدث فيها عن الديمقراطية.. حكيت في تلك المقالة عن الطرق التي تُحَارَبُ بموجبها الديمقراطية في البلاد العربية (المحترمة جداً)، ومنها أن المفكر أحمد لطفي السيد (1892- 1963) الذي يحمل ألقاباً رفيعة المستوى، منها، أفلاطون الأدب العربي، وأستاذ الجيل، وأبو الليبرالية المصرية.. رشح نفسه للبرلمان في دائرته الانتخابية، وكان أحد منافسيه ديماغوجياً، نصاباً، أفَّاقاً، فراح يدور بين الفلاحين ويقول لهم، وهو يرقص صوته لإحداث تأثير عظيم فيهم: أحمد لطفي السيد يا جماعة، اللهم عافينا، ديمقراطي!
فيسألونه باهتمام: ديمقراطي يعني إيه؟
فيقول: ديمقراطي يا اخوننا، يعني.. (ويعدد كل مترادفات الانحطاط الأخلاقي التي ينفر منها هؤلاء الناسُ الطيبون).. وهكذا حتى تمكن من إسقاطه في الانتخابات، لأنه ديمقراطي (حاشاكم)!
لم تنشر الصحيفة مقالتي، وبعد حوالي شهر، سنحت لي سفرة من إدلب إلى دمشق، وزرت صديقي رئيس القسم الثقافي، وسألته عن المقالة، فاستغرب سؤالي، وقال لي إنه أرسلها للنشر من لحظة وصولها إليه، ويَعتقد أنها نشرت. أعلمته بأنني متأكد من أنها لم تنشر، لأنني أترقبها من خلال أعداد الصحيفة اليومية. اتصلَ بالجهة المسؤولة عن نشر المواد، وأثناء ذلك بدأت معالم وجهه تتغير، ثم أغلق السماعة، ونظر إلي، وابتسم بإشفاق وقال لي: المقالة أحيلت إلى المفرزة الأمنية!
الآن، أتذكر أنني صُدمت في البداية، وانزعجت إذ عرفت، لأول مرة، أن في كل صحيفة عندنا مفرزة أمنية!
إنني أمتلك فكرة أن المفرزة الأمنية مكان تحت الأرض، فيه دواليب وعصي ومآخذ كهربائية، وعساكر لهم شفاتير (شفاه غليظة)، وأكفهم تشبه المخابيط، والأصوات الرئيسية التي تنبعث من المفرزة في آناء الليل وأطراف النهار هي الولاويل.. ولذلك خفت ألا تكتفي المفرزة المذكورة بالاحتفاظ بمقالتي كدليل على انحيازي للديمقراطية، وتقوم باستدعائي، وأتعرض لتحقيق طويل عريض حول الدوافع والغايات والمسببات.. إلخ.
حمدت ربي وشكرته، في السر والعلن، ألف مرة.. سيما وأنني سمعت حكاية صديقنا الحلبي الذي أرسل مقالة إلى الصحيفة ذاتها، وأحيلت إلى المفرزة الأمنية..
حكاية مقالة صديقي الحلبي تفاعلت، وكبرت (كبرت قوي يا رجالة)، لأن مفرزة الجريدة رفعت بمقالته تقريراً إلى الفرع الذي تتبع له، والفرع المذكور أرسل التقرير مع صورة المقالة إلى فرعهم في حلب، مع حاشية تنص على أن هذا الرجل ربما يكون عميلاً للإمبريالية، ذلك أن الأفكار الخبيثة التي وردت في مقالته، لو قرئت جيداً، فسوف تعطي نتيجة أنه يسعى إلى جزأرة سورية وتسليمها لقمة سائغة للصهيونية العالمية (على حد تعبير النائب عبد الحليم خدام).
فرع الأمن الحلبي الذي تلقى إحالة الفرع الشامي استنفر، ولا شك أن ضباطه وعناصره هللوا، وكَبَّروا، ووقفوا وقفة الرجل الواحد، يريدون أن يقطعوا دابر التيارات الرجعية، المرتبطة بالدوائر الاستعمارية.. وكانت لهم غصة واحدة، وهي أن الشخص المتآمر أديب وصحفي له اسم، ولولا ذلك لشحطوه مثل الشاحوطة، وفعلوا ولم يتركوا به وبمن يلوذ به.. ولذلك اكتفوا باستدعائه، وعملوا له محاضرة طويلة عريضة عن اللحمة الوطنية، والتضامن العربي، والتفاف مختلف فئات الشعب حول القيادة الحكيمة للرئيس الشاب بشار الأسد الذي أشفق على جماهير الشعب عندما مات والده، سنة 2000، وشعر بأن سفينة الجماهير ستبقى دون قيادة وسط هذا المحيط المتلاطم، فانبرى لقيادتها، وتحمل مسؤولياته التاريخية.. إلخ.
كنت، في تلك الأيام، أزور مدينة حلب مرة كل شهر، وأجلس في مقهى القصر وأشرب قهوة اسبريسو من يد العامل المحترم "نمر".. وأذكر أنني التقيت صديقي الأديب الحلبي الذي استدعي للتحقيق بسبب مقالته، سألته همساً: أيش صار معك في الفرع؟
- ولا شي. قالوا لي: ما رأيك؟ هل أنت مستعد لأن تلتف؟ قلت نعم. والتففت.
- شلون يعني التففت؟
- التففت حول القيادة الحكيمة فأطلقوا سراحي.