مأساة الزلزال والعواء الهادم
بينما أواسي صديقتي التركية التي تسكن معي بالمنزل وتواسيني هي كذلك، حيث تشاركني وأشاركها هذه الأيام العصيبة التي تمرّ بها تركيا، نتداول النقاش حول بعض القضايا التي تشهدها تركيا من صراعات سياسية بين أحزاب تحاول الركوب على هذا الحدث المؤلم لتتاجر بالآلام والمأساة، خاصة وأنّ الانتخابات الرئاسية اقترب وقتها، ولا يفصل عنها سوى بضعة شهور؛ فالمعارضة التركية أضحت تستغل كلّ شيء لتشويه صورة الحزب الحاكم الحالي، ولم تستح من هذا المشهد الصعب الذي تمرّ به البلاد. فعوض أن تتكاتف الجهود وتتحد الأيادي لتجاوز هذه الأزمة، لم تعد المعارضة تستحي من تحميل مسؤولية الأزمة وهشاشة البناء للحكومة، ثم تعود لتقارن تركيا باليابان أو الصين أو غيرها من الدول الناهضة في البناء المضاد للزلازل، فحصل أن كان معها هذا الحوار، إذ قلت لها:
- الآن، الناس تحت الأنقاض ينتظرون من يسعفهم قبل أن تتوقف أنفاسهم، وهذه المعارضة تركب على هذه الأزمة، دون حياء، ولا استحياء، ولا خجل من نفسها، وهو الأمر الذي يقود إلى ضرورة معرفة المدّة التي تولت فيها حكومة رجب طيب أردوغان قيادة البلاد؟
- قبل عشرين سنة.
- ومتى نهضت اليابان والصين؟
- قبل عقود عديدة.
- وكم اشتغل الشعب الصيني من عقود حتى وصل إلى تلك النهضة؟
- أكيد أزيد من 100 عام.
- هذه المعارضة كانت تحكم هي أيضا قبل 20 سنة، فلماذا لم تحقّق ما حققته الصين من إنجازات؟ ولماذا لم تنشئ بناءً مضاداً للزلازل عندما كانت الحكومة في يدها، فقد كان لديها الوقت الكافي لفعل ذلك؟
لم تصبح الصين معجزة اقتصادية هكذا عبثا أو بين ليلة وضحاها، فمنذ تأسّست جمهورية الصين الشعبية عام 1949، وهي تزداد نمواً بالعمل الجاد وليس بالكلام الفارغ والشعارات من أجل كسب الانتخابات، ليس هذا فقط، إنما يجب أن نعود إلى الخلف ونتأمل كيف بنيت هذه الجمهورية، وندرس مراحل التطوّر في مسار نهضة الصين وباقي الدول، وكم عقداً اشتغل الشعب الصيني ليفرض دولته بين الأمم الأخرى. أما تركيا قبل عشرين سنة، فقد كانت في مكان آخر. ألا يعدّ هذا التطوّر الذي أحدثته تركيا خلال عشرين سنة فقط جيداً بالنسبة لكم؟! وهل تصح مقارنة تركيا بالصين على قياس هذه الفترة الزمنية الوجيزة!؟
ما سعت له تركيا وحققته طيلة عقدين من الزمن، لم يستطع الكثير من البلدان تحقيق أجزاء صغيرة منه
وأردفت بعدها مضيفة: الآن دعينا من هذا الكلام السخيف، عندما خرجت من المغرب لأكمل الدراسة خارج وطني، كان العالم يشهد تحولات غريبة وأحداثاً لم يسبق لها مثيل في حياتي، بداية من كورونا التي أثرت على العالم بأسره، ولم نتعافَ من آثاره النفسية إلا قبل وقت قصير، ثم زلزال إزمير الذي حصل في العام الماضي وأحدث ما أحدثه من آثار سلبية على نفوسنا، إلى أن شهدنا هذا الزلزال الأخير المدمّر بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى.
وأضافت: عندما خرجت من بلدي كنت أتوقّع أنني سأواجه تحديات الغربة والبعد عن الأهل والوطن فقط، وإذا بنا نواجه أموراً أصعب وأثقل بكثير على نفسياتنا، صعوبات يعاني منها أهل البلد ونحن المقيمين أيضا، فهل ينقصنا هذا الحديث السخيف في أزمة قاسية على القلب والوجدان الإنساني كهذه!
فقالت لي: أنا أتمنى أن تستقري وتعيشي معنا هنا في تركيا بعد أن تنهي مشوار دراستك، فتركيا بحاجة جدا إلى كلّ من يعي هذه الأشياء ليبني لا ليهدم، وليؤسّس لا لينقض، وليوجّه البوصلة إلى مسارها الصحيح.
ولم أكد أنهي حديثي معها، حتى غرقت في صمت متأملة في هذا الحوار، والقلب والوجدان يسرحان في هم وطني، على أمل أن تدركه بعض المعالم النهضوية التي حققتها البلاد التركية دون أن يرضي ذلك بعض شعبها، إلا أنّ المتأمل فيها سيدرك أن ما سعت له تركيا وحققته طيلة عقدين من الزمن لم يستطع الكثير من البلدان تحقيق أجزاء صغيرة منه.