02 سبتمبر 2024
مؤانسات رمضانية (13) الإنسان يبكي عندما لا يفهم
قال أبو النور: يمر الزمن على البشر في العالم كله عدانا نحن العرب، وكأننا محصنون، أو ملقحون ضد الزمن، فالقرن الذي طوله مئة سنة نعيش فيه مئتين، أو بالأصح أننا لا نحمل في أيدينا ساعات ولا نعلق في صدور منازلنا روزنامات تشير إلى اليوم والساعة والسنة وأوقات الشروق والغروب.
نظرنا إليه مندهشين، فقال:
- كأنكم تريدون مني تقديم الدليل على ذلك.
قلنا: يا ليت.
قال: هذا من حقكم بالطبع. أنا أقول هذا الكلام لأنني ألاحظ أن (الخطابة) انقرضت في كل مكان إلا عندنا، وبالعكس فهي تزدهر وتتطور، في الوقت الذي يذبل كل شيء ويتراجع. وأنتم تذكرون ذلك الفصل من "مسرح الشوك"، حينما تتصل امرأة ما بمسؤول الكهرباء وتقول له:
- (التيار) الكهربائي عندنا مقطوع.
فيرد عليها: سنجتثُّ (التيارات) العميلة المعادية لأمتنا العربية.
تقول له: يا أخي التيار الكهربائي (مقطوع).
فيقول لها: سـ (ــــنقطع) دابر المؤامرات التي تستهدف كرامة أمتنا العربية ووحدتها واستقلالها.
ضحكنا، وقلت لأبي النور: كم هي جميلة كتابات أستاذنا محمد الماغوط، وبالأخص حينما يتحدث عن الخطابات.
قال: أنا، مثل الماغوط، أكره الخطابة، وبرأيي هذا الكلام المنمق المنتقى بعناية من قاموس المترادفات العربية اللامتناهية الذي يلقيه خبيرٌ في رفع الطبقات الصوتية هبوطاً ونزولاً، وفي التوقف عن كلمة ومط أخرى، إذا مخضته بطريقة صنع الزبدة فأنا متأكد أنك لن تحصل على زبدة، ولا حتى على "قريشة"، وإنما هو حُشَفٌ وسوء كيلة!
قلت: ذكرتني بفصل من رواية "زوبك" لعزيز نسين التي ترجمها عبد القادر عبدللي وصدرت عن دار الأهالي بدمشق سنة 1987. ففي الرواية يخطب الشيخ بدر الفهمان باللغة العربية، والمصلون كلهم أتراك لا يفهمون الكلام، ولكن نوري الأعمى يبكي بحرقة، وفيما بعد يروي ما جرى معه فيقول:
- حينما يُرَقِّصُ الشيخ بدر صوته هل يستطيع أحد أن يصمد فلا يبكي؟ مستحيل. أنا والله طقت عيني من فرط البكاء. لقد نزحت الدموع من جواي. ولقد اكتشفتُ لك اكتشافاً غريباً يا أخي.
فيسأله الشخص الذي يستمع له: ما هو هذا الاكتشاف؟
فقال: الإنسان يبكي عندما لا يفهم الخطاب الذي يصغي إليه. فلو كان يفهم لماذا يبكي؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(يعود تاريخ هذه الحكايات إلى ما قبل ربع قرن من الزمان)
- كأنكم تريدون مني تقديم الدليل على ذلك.
قلنا: يا ليت.
قال: هذا من حقكم بالطبع. أنا أقول هذا الكلام لأنني ألاحظ أن (الخطابة) انقرضت في كل مكان إلا عندنا، وبالعكس فهي تزدهر وتتطور، في الوقت الذي يذبل كل شيء ويتراجع. وأنتم تذكرون ذلك الفصل من "مسرح الشوك"، حينما تتصل امرأة ما بمسؤول الكهرباء وتقول له:
- (التيار) الكهربائي عندنا مقطوع.
فيرد عليها: سنجتثُّ (التيارات) العميلة المعادية لأمتنا العربية.
تقول له: يا أخي التيار الكهربائي (مقطوع).
فيقول لها: سـ (ــــنقطع) دابر المؤامرات التي تستهدف كرامة أمتنا العربية ووحدتها واستقلالها.
ضحكنا، وقلت لأبي النور: كم هي جميلة كتابات أستاذنا محمد الماغوط، وبالأخص حينما يتحدث عن الخطابات.
قال: أنا، مثل الماغوط، أكره الخطابة، وبرأيي هذا الكلام المنمق المنتقى بعناية من قاموس المترادفات العربية اللامتناهية الذي يلقيه خبيرٌ في رفع الطبقات الصوتية هبوطاً ونزولاً، وفي التوقف عن كلمة ومط أخرى، إذا مخضته بطريقة صنع الزبدة فأنا متأكد أنك لن تحصل على زبدة، ولا حتى على "قريشة"، وإنما هو حُشَفٌ وسوء كيلة!
قلت: ذكرتني بفصل من رواية "زوبك" لعزيز نسين التي ترجمها عبد القادر عبدللي وصدرت عن دار الأهالي بدمشق سنة 1987. ففي الرواية يخطب الشيخ بدر الفهمان باللغة العربية، والمصلون كلهم أتراك لا يفهمون الكلام، ولكن نوري الأعمى يبكي بحرقة، وفيما بعد يروي ما جرى معه فيقول:
- حينما يُرَقِّصُ الشيخ بدر صوته هل يستطيع أحد أن يصمد فلا يبكي؟ مستحيل. أنا والله طقت عيني من فرط البكاء. لقد نزحت الدموع من جواي. ولقد اكتشفتُ لك اكتشافاً غريباً يا أخي.
فيسأله الشخص الذي يستمع له: ما هو هذا الاكتشاف؟
فقال: الإنسان يبكي عندما لا يفهم الخطاب الذي يصغي إليه. فلو كان يفهم لماذا يبكي؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(يعود تاريخ هذه الحكايات إلى ما قبل ربع قرن من الزمان)