مؤانسات رمضانية(6): امرأة بكت على الحاج عمر في السويد

05 يونيو 2017
+ الخط -
تناولنا في هذه الليلة عشاء دسماً، الأمر الذي اضطر زوجة الحاج عمر أن ترسل له عشاءه الخاص مع أحد أحفاده، فهو ممنوع من قبل الطبيب عن تناول أي نوع من المواد التي تحتوي الدسم، فانزوى إلى جانب من السفرة، وراح يأكل من دون تلذذ، ويحثنا على تناول الطعام متوسلاً، قائلاً:

- دخيل الله كلوا بقدر ما تستطيعون!

وشرح لنا أن الطعام، بالنسبة للناس الأصحاء، فيه متعة كبرى، أما هو، فالكولسترول اللعين، والشحوم الثلاثية المرتفعة لديه كادت، قبل سنتين أن تقضي عليه بشربة ماء.

قال أبو نزار: أنا أعرف الحاج عمر يوم كان شاباً. ما شاء الله، مثل الجاموس الشبعان. 

قال أبو النور: إذا سمحتم، لدي تعليق على موضوع الشحوم والكولسترول.

قال الحاج عمر: تفضل.

قال: قبل مدة من الزمان أصبحت أشعر بوهن في مفاصلي، استشرت أحد الأطباء فنصحني أن أحلل السكري والشحوم الثلاثية والكولسترول ثم أذهب إليه في العيادة. المهم يا شباب، حللت، وإذا السكر طبيعي، وأما الكولسترول فمرتفع عن الحد الأعلى بحدود خمسين ملغرام، ذهبت إلى الطبيب فزاد من قلقي إذ قال لي إن هذا يشبه القنبلة التي لا تعرف متى ستنفجر وتنهيك، ولا سيما أنك قد تجاوزت الخمسين. 

لم يرحني كلامه، فهرعت من توي إلى عيادة الطبيب أحمد فوزي، فلما رآني قلقاً أطلق ضحكة وقال لي: اسمع يا أبا النور والذهب المنثور، هذه النسب العليا المدونة على ورقة التحليل المطبوعة مأخوذة حرفياً عن المخابر الغربية، ولعلمك فإنك لو عشت في أوروبا دهراً لن تجد من يدعوك إلى عشاء على خاروف محشي باللوز والصنوبـر والجوز، وتبدأ أنت بتمليص قطع اللحم المدهنة وتأكل على طريقة إما قاتل أو مقتول. احسبها إذا شئت كم تحتوي أكلة كهذه على شحوم وكولسترول، ولربما شاب شعرك في الحال!

ضحك الحاضرون، وقال الحاج عمر:

- سوف أحكي لكم قصة تشبه في تأثيرها القنبلة التي حكى عنها الطبيب الذي زاره أبو النور بعد التحليل. 

قلنا متشوقين: تفضل.

قال: أي نعم أنا، مثلما قال أبو نزار المفلسف، كنت مثل الجاموس الشبعان، وكان لدي عزم يقدرني على أن أضع القطعة النقدية بين إبهامي وسبابتي وأفركها فأزيل منها الكتابة! المهم في الموضوع أن ما آكله لم يكن يذهب سدى، بل كنت أقوم بأعمـال جبارة: أعمل في الزراعة والتجارة وتربية البقر والغنم، وأحياناً في تكسير الأحجار، وذلك لكي أستطيع أن أطعم الأشداق الهائلة التي كانت زوجتي تتحفني بواحد أو اثنين منها كل سنة أو أقل، ولكي أطعم نفسي في الدرجة الأولى، وقد كنت آكل وحدي أكثر مما يأكله ستة رجال.

قال أبو نزار: أي نعم، فأنا حضرت لك "موقعة أكل" ومن يومها شاب شعري وعادت لا تنفع معه الصبغات ولا الحناء!

قال: المهم، نحن هنا ندبر أنفسنا بأي شيء، فإن لم تتوفر لنا اللحوم، نضع أمامنا عشرين أو ثلاثين رغيفاً، ونغط بالزيت والبندورة والملح ونأكل حتى نشبع ونحمد الله، ونشرب دلوين من الماء أو ثلاثاً ونشكر المولى عز وجل على نعمه!.. ولكن، في يوم من الأيام، وكنت أعمل في تجارة البطيخ بين قريتنا وبيروت، التقيت في سوق الهال ببيروت صديقاً قديماً عرض علي أن نتاجر بمادة "المحلب" الذي تزدهر زراعته في منطقتنا، وأول سفرة اقترحها كانت إلى السويد.

قلت: وذهبتم؟

قال: إي نعم، وهنالك وقعت في الإشكال الذي أمهد للحديث عنه. ففي السويد، يا شباب، كل شيء رائع ومدهش، وشعبهم يحب الحياة ويعرف كيف يعيش، إلا من ناحية واحدة، وأعني الطعام. يا رجل كيف يستطيع واحدهم أن يعيش بوجبات قليلة وبسيطة ومعظمها من السوائل؟ المهم رحنا نبحث عن مطعم نأكل فيه شيئاً دسماً يقيم أودنا. اهتدينا إلى واحد، سـألت صاحبي: "ماذا تأكل؟" قال "اطلب لي نصف فروج مشوي" فناديت النادل وقلت له: "هات لنا ستة فراريج مشوية لو سمحت".

بالطبع، فقد كنا نحدثه بالإشارات، ولذلك فقد ذاق الأمرين حتى استطاع أن يسألني: "أنتم وحيدان أم أن لكم تتمة؟" 

قلت له: "ماذا يهمك من هذا الأمر طالما أننا سندفع لكم فلوساً؟". المهم الرجل انغلب على أمـره وذهب، وبعد قليل بدأت المشاورات بينه وبين زملائه وصاحب المطعم، ثم أنزلوا لنا الطلب وشرعوا يراقبوننا من بعيد، وكذلك الزبائن، حتى إن سيدة جميلة كانت تنظر إلي وأنا أتناول قطعة من الفروج الرابع، بنهمي المعهود، فانفلتت بالبكاء. 

(يعود تاريخ هذه الحكايات إلى ما قبل ربع قرن من الزمان)

 
دلالات
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...