مئة عام على ميلاد الرسام بالكلمات
في الواحد والعشرين من شهر آذار عام 1923، وُلِدَ في البيت الدمشقي لآل قباني في حي مئذنة الشحم طفل جديد، سمّاهُ أبوهُ نزاراً، ولم يتوقع أي شخص آنذاك بأنه سيصيرُ في يومٍ ما، علامة من علامات الشعر العربي الحديث. وفي ذكرى مرور مئة عام على ميلاده، أعلمُ أن كثيراً من النصوص كُتبتْ احتفالاً بها؛ فقبل أن أكتبَ فكّرتُ مليّاً، ودارت في رأسي الكلمات والمفردات؛ لأصوغ نصاً يليقُ بتاريخه الحافل، الذي أسس نقطة تحوّلٍ في الشعر، وأوجد قفزة شعرية نوعية، وصار اسمه مقترناً بالنجاح، ويكفي أن يُكتبَ على أي كتابٍ؛ حتّى يُثيرَ الفضول لشرائه؛ لذلك قررتُ أن أكتبَ في مقالي هذا عن لقائي معه.
عندما رحل نزار قباني عن عالمنا في عام 1998، كنتُ طفلاً صغيراً أتعلمُ لغة الكلام، ولم أتوقع بأنني سألتقي به بعد رحيله؛ من خلال كتبه ودواوينه، فكان اللقاء الأوّل في عام 2006، أذكرُ ذاك اليوم جيداً، عندما ذهبتُ إلى المكتبة لشراء الكُتُب، ومتابعة أحدث إصداراتها، ومتجاهلاً الوقوف عند رفِّ الدواوين الشعرية، وأتجاوزهُ معتقداً بأني اكتفيتُ من قراءة الشعر، ولكن توقفتُ قليلاً أمام كتابٍ متوسط الحجم، غلافه أصفر اللون، تتوسطه شجرة خضراء، وكُتب عليه، الرسم بالكلمات، نزار قباني، وقفتُ عند العنوان أتأمله متمعناً بجماله وأناقته، وقتها لم أكن أعرف الكثير عن صاحب الكتاب؛ إلا قصيدة درستها في المدرسة من مؤلفاته، وأخبار عن مسلسل عرض سيرة حياته، شاهدتُ بعض حلقاته، فتصفحتُ الأوراق مطّلعاً على محتواه، الذي جذبني من صفحاته الأولى، وجعلني أدفع ثمنه للبائع، وأغادر إلى منزلي مسرعاً؛ لأكمل الإبحار في أعماقه.
أنهيت قراءة جميع قصائد ديوان "الرسم بالكلمات" في جلسة واحدة، وفي اليوم التالي، ذهبتُ إلى المكتبة، واشتريتُ أكثر من عشرة دواوين، ثم عدتُ واشتريتُ مجموعة أخرى
فور وصولي إلى منزلي، وضعتُ الديوان أمامي أتأمله، كالظافر بغنيمة ثمينة، وقد نُشِرَ للمرّة الأولى في عام 1966، أما الذي بحوزتي، فكانت طبعته العشرين، الصادرة عن دار منشورات نزار قباني في بيروت، في عام 1997. قلّبتُ صفحاته باحثاً عن القصيدة التي تحملُ عنوانه "الرسم بالكلمات"، ولفت انتباهي أسلوب نزار في توظيف الوصف بأبياتها، عندما يروي تجارب عاشها لمحبوبته، التي سألته عن حياته وسنوات عمره، فأجابها قائلاً: " كلُّ العصور أنا بها.. فكأنّما.. عمري ملايين من السنواتِ"، ثم أخبرها عن انتصاراته وهزائمه العاطفية، والمغامرات التي خاضها، وأرى بأنه أنهى القصيدة بنهاية شبه مأساوية، فقال: "كل الدروب أمامنا مسدودة... وخلاصنا في الرسم بالكلمات"، فيقول لحبيبته لا يوجد أي طريق للنجاة من مآسي الحُبّ والعشق، إلا بالتعبير عن ذلك بكتابة الكلمات مرسومة؛ حتّى يظل أثرها باقياً على مدى الزمن.
أنهيت قراءة جميع قصائد ديوان "الرسم بالكلمات" في جلسة واحدة، وفي اليوم التالي، ذهبتُ إلى المكتبة، واشتريتُ أكثر من عشرة دواوين، ثم عدتُ واشتريتُ مجموعة أخرى، واستمرت هذه الرحلة، لأخصص في مكتبتي مكاناً خاصاً بمؤلفات نزار قباني، وبعض من الكُتب والدراسات التي كتبت عن حياته وشعره؛ لكثير من الكُتّاب الذين أرادوا تسليط الضوء على جانب أو جوانب من مسيرته، وهكذا صارت قصائده رفيقة جلسات القراءة اليومية، كما ساهمت في إثراء ذائقتي الشعرية، وأضافت لمخزوني اللغوي، وقاموس مفرداتي الشخصي.
بعد مرور سنوات طويلة على لقائي الأوّل مع نزار، أؤكّد بأن نجاحه لم يأتِ وليد الصدفة، بل جاء بعد أن قرر التحليق منفرداً في سماء الشعر العربي، والخروج عن مفردات المعاجم اللغوية، واتخاذ مساره الخاص بنثر الكلمات، فألّفَ معجماً نزارياً اقتبس منه المفردات، ورسم إيقاعاً جديداً للقصيدة العربية، وعزف على أوتار الحُبِّ، فتمكّن من الحفاظ على مكانة اسمه حتّى هذا الوقت، وبقيت مؤلفاته ودواوينه تباع في كل مكان بطبعات جديدة، ويجدها القراء في متناول أيديهم أينما ذهبوا، وفي ميلاده المئة، لا تكفي مقالة واحدة للكتابة عنه، ولا يمكن التعبير عن تاريخه بمجموعة من الفقرات، بل ستظل ذكراه باقية، كبقاء عبق الياسمين، ورائحة خبز الصباح، والقهوة العربية.