ما قبل 7 أكتوبر ليس كما بعده
يتناول الطبيب والفيلسوف الراحل، فرانز فانون، في كتابه "معذّبو الأرض"، التحوّلات النفسية والاجتماعية التي تطرأ على المجتمعات في حالة الاستعمار أو الاحتلال. يُعد هذا العمل مرجعًا أساسيًا في فهم ديناميكيات الصراع بين القوى المحتلة والشعوب المحتلة، إذ يناقش فانون "نقطة اللاعودة" كمرحلة فارقة في العلاقة بين المحتل والشعب تحت الاحتلال، حيث يصل الشعب إلى قناعة بأنّ النضال المسلّح، أو الكفاح بأشكاله المختلفة، هو السبيل الوحيد لاستعادة الحرية والكرامة.
لتطبيق رؤية فانون على الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، يجب الأخذ بعين الاعتبار التاريخ المعقّد والطويل لهذا الاحتلال، وكذلك الديناميكيات السياسية والاجتماعية الخاصة به. فالاحتلال الإسرائيلي، الممتد لأكثر من قرن، يشهد تحوّلات متعدّدة تشمل مقاومة مسلحة، انتفاضات شعبية، مفاوضات سلام، ومبادرات دبلوماسية. وفي هذا السياق، إنّ "نقطة اللاعودة" قد تتخذ أشكالاً متعدّدة في مراحل مختلفة من الصراع.
في تحليل الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين من منظور فانون، يُعتبر الاستعمار ليس مجرّد سيطرة عسكرية فحسب، بل هو عملية معقدة تشمل الهيمنة الثقافية، والاقتصادية، والنفسية. الاحتلال يفرض واقعًا جديدًا يقوم على التمييز، الاستغلال، والقمع، مما يؤدي إلى استجابات متنوّعة من قبل الشعب المحتل، تتراوح بين الخضوع والمقاومة.
وفي ما يلي نقاش بعض المسائل المتعلقة بالقضية الفلسطينية استنادًا لأفكار فانون:
مرحلة الوعي والتحول النفسي
تمامًا كما يصف فانون، مرّ الشعب الفلسطيني بمراحل من الوعي بالذات وبالظلم الذي تعرّض ويتعرّض له. الانتفاضات الفلسطينية، على سبيل المثال، تعكس لحظات من "نقطة اللاعودة" حيث قرّر الفلسطينيون الوقوف في وجه الاحتلال.
الكفاح المسلح والمقاومة السلمية
اتخذ النضال الفلسطيني أشكالًا مختلفة، من الكفاح المسلّح إلى الاحتجاجات السلمية والحملات الدولية للتوعية. ويُمكن اعتبار يوم 7 أكتوبر كتاريخٍ فارق، إذ شكّل منعطفًا جديدًا ولحظة لا عودة في تاريخ هذا الاحتلال، حيث بدأت معالم نهايته تلوح في الأفق. هذا اليوم، الذي يمكن تصوّره كرمز لمرحلة مهمة من النضال والمقاومة، يمثل نقطة تحوّل حاسمة تعكس تصاعد الوعي الجمعي والتحوّل في استراتيجيات المقاومة الفلسطينية.
هكذا، يمثل 7 أكتوبر لحظة إعلان النهاية، بمثابة إشارة قوية على انتقال الصراع إلى مرحلة جديدة تتسم بتعزيز الوعي الجماعي وتجديد الالتزام بالمقاومة، مما يفتح الباب أمام فصولٍ جديدة من النضال نحو تحقيق الحرية والاستقلال. إنّ فهم أهمية هذا اليوم يتطلّب تقييم الأحداث التي سبقته، والتي أدّت إلى تكثيف الجهود وتوحيد الصفوف ضمن المقاومة الفلسطينية. ما قبل هذا التاريخ ليس كما بعده، قد نشهد تحوّلات سياسية، إطلاق مبادرات جديدة، أو حتى عمليات مقاومة بارزة تُعيد تشكيل العلاقة بين المحتل والشعب تحت الاحتلال وإعادة تعريف مسار الصراع واستراتيجيات المواجهة.
تعكس الانتفاضات الفلسطينية المتتالية لحظات من "نقطة اللاعودة"، حيث قرّر الفلسطينيون الوقوف في وجه الاحتلال
هذه اللحظة الفارقة تعكس بجلاء ما تحدّث عنه فانون بخصوص "نقطة اللاعودة"، حيث يتجاوز الشعب المحتل حالة الشلل النفسي والخوف، لينتقل إلى مرحلة الفعل المقاوم، مدفوعًا بإيمانٍ راسخٍ بعدالة قضيته وإمكانية تحقيق النصر. في هذا السياق، تصبح معالم نهاية الاحتلال أكثر وضوحًا، ليس فقط كحلم يُراود الشعب المحتل، بل كإمكانية واقعية يمكن تحقيقها من خلال التصميم والعزيمة والتضامن الدولي.
الدور الدولي والتضامن
يؤكد فانون على أهمية التضامن الدولي في دعم الشعوب المحتلة. القضية الفلسطينية شهدت مستويات متفاوتة من الدعم الدولي، ما أثّر على مسار الصراع وفتح المجال لمبادرات دبلوماسية. وما حصل بعد 7 أكتوبر، نقطة تحوّل فارقة على المستوى الدولي، وعلى مستوى الرواية الفلسطينية أيضًا، فلم تعد الرواية الإسرائيلية هي الغالبة والمسيطرة، اليوم بدأت أصوات المجتمعات الغربية تعلو، فخرجت شعوبها في مظاهرات ضخمة لنصرة الحق الفلسطيني بالوجود على أرضه والاستمرار في هذا الوجود، وهذا من شأنه التأثير على سياسات الدول الغربية الكبرى الداعمة لهذا الاحتلال.
الطريق نحو الحرية والاستقلال يتطلب التضامن الدولي، الوعي بالحقوق، والاستمرار في البحث عن أشكال مبتكرة من المقاومة المسلحة، فالعنف لا يواجه إلا العنف
أيضًا، ثمة دول بدأت بمواجهة هذا الاحتلال وجرائمه، حيث تقود جنوب أفريقيا دعوة قضائية ضد الاحتلال الإسرائيلي، بدعوى ارتكاب إبادة جماعية بحق الفلسطينيين في غزّة، وليس غريبًا أن تحمل جنوب أفريقيا هذا اللواء، وهي التي ذاقت الأمرين في هذا الجانب، فلها باع طويل في مواجهة دولة الفصل العنصري والظلم.
من خلال عدسة فرانز فانون التي تسلّط الضوء على الأبعاد النفسية والاجتماعية للمقاومة ضد الاحتلال، إنّ "نقطة اللاعودة" ليست لحظة ثابتة، بل هي عملية مستمرة من النضال والتحوّل. فالطريق نحو الحرية والاستقلال يتطلب التضامن الدولي، الوعي بالحقوق، والاستمرار في البحث عن أشكال مبتكرة من المقاومة المسلحة، فالعنف لا يواجه إلا العنف.
نقطة أخرى لا بدَّ من تسليطِ الضوء عليها في ظلّ هذا الحدث والتحوّل التاريخي، وهي ضرورة توحيد الصف الفلسطيني حول هُوية جمعية قادرة على تحقيق التراكم المطلوب قبل فوات الأوان. هذا التوحيد يعتبر خطوة أساسية نحو التحوّل إلى الفصل الأخير في مسيرة التحرّر الفلسطينية، خاصة في ضوء توّفر كلّ الشروط الموضوعية اللازمة لذلك.
عندما يتحدث الإسرائيليون والأميركيون بوضوح عن أنّ المعركة الجارية ستحدد مستقبل المنطقة لعقودٍ قادمة، يُطرح سؤال ملح حول مدى إدراك الفلسطينيين وداعميهم لأهمية ومغزى هذه المرحلة. هل يفهمون حقًا الدلالات والتبعات المستقبلية للصراع الحالي؟
الإجابة عن هذا السؤال تتطلب من الفلسطينيين وحلفائهم تجاوز الخلافات الداخلية والتوّحد حول رؤية مشتركة تعزّز من مقاومتهم وتدعم مساعيهم نحو تحقيق الاستقلال والسيادة. من المهم أن يتم التركيز على بناء استراتيجية شاملة تعتمد على الوعي العميق بالهوية الجمعية والتاريخ المشترك، بالإضافة إلى التعبئة الفعّالة للموارد والتأكيد على الحق في النضال من أجل الحرية.