مجزرة المواصي ورفض الصمت
استيقظنا فجرَ هذا اليوم على وقعِ مجزرةٍ مُروّعة أخرى ارتكبها العدو الصهيوني المدعوم أميركيًا ضدَّ المدنيين في قطاع غزّة، لتُضاف (الجريمة) إلى عشراتِ الجرائم التي يرتكبها الاحتلال يوميًا منذ أكثر من 340 يومًا بلا حسيب أو رقيب.
متخفيّةً بظلامِ الليلة الماضية، قصفت الوحوشُ البشريّة الجبانة بقنابل أميركية الصنع، وتزن آلاف الأطنان، مُخيّمًا للنازحين في منطقة مواصي خانيونس. قنابل مُخصّصة للمباني المُحصّنة، بخّرت البشر والأحلام في الخيام. ومع كلِّ حلمٍ تبخّر، فقدَ العالمُ بأسره جزءًا لن يُعوّض من إنسانيّته. قنابل عمياء مسحت عشرات العائلات الفلسطينية مرّة أخرى من السجلات المدنيّة في رمشةِ عين، حتى لم يجد الغزّيون المحاصرون منذ ما يقرب من عام، سوى أيديهم العارية للحفرِ من أجل استعادة ما تبقى من أشلاء أحبّتهم في ظلامِ الليل الذي زادت ظلمته بشاعةً هذا العالم المتواطئ. ويتكرّر السؤال اليومي الذي طُرِح منذ الأسبوع الأوّل للعدوان الهمجي على قطاع غزّة قبل أكثر من أحد عشر شهرًا، كيف يمكن أن نبقى صامتين بينما يُذبح الأبرياء، والعالم يشاهد بلا مبالاة؟
ويبدو الجواب البديهي بأنّ العالم بهياكله الرسميّة والرأسمالية قاطبةً قد اتفق على إبادةِ هذا الشعب المقاوم، وإسقاط إحدى آخر قلاع الحريّة على هذه الأرض.
الإعتراض والوقوف بوجه الظلم، واستمرارنا في توثيق الحقائق والكتابة بلا هوادة، يشكّل بحدِّ ذاته، رفضًا قاطعًا لهذا الواقع المرير
كتبتُ خلال السنة الماضيّة الكثير من المقالات، حتى بتُّ أشعر بعدميّة الكتابة، وبالعجز والقهر، وبالغضب، بينما أرى حيواتٍ مُذهلة تُمحى كما يُمحى أثر قلم الرصاص، أرى شعبًا بأسره يُنكّل به ويُباد يوميًا، بينما العالم يقفُ متفرّجًا، بل مشاركًا في الجريمة. ومع ذلك لا أستطيع أن أصمت، وأنا أرى الأرواح البريئة تُسحق على مدار الساعة، تحت هول دمار القنابل الأميركية والغربية، والناس تجوع وتمرض وتُعاني تحت حصارِ القريب قبل البعيد.
وعلى الرغم من شعوري أنا فردًا بالعجز عن فعلِ أيّ شيءٍ جوهري يمكنه إيقاف هذه المجزرة، فإنّني لا أستطيع البقاء صامتًا، حتى لو ضاعت كلماتي في فراغِ الكون، فلا بدّ لي، ولنا جميعًا أن نرفض الاستسلام لهذا العجز، ويجب على أصواتنا أن تستمرّ في الارتفاع ضدَّ الظلم، فمهما تجاهلها فراعنة العصر الحالي، لن يستطيعوا تجاهلها إلى الأبد، ناهيك عن أنّ الصمت اشتراكٌ صريح في الجريمة. ومهما بدونا عاجزين أمام تلك الجيوش الجرارة والأساطيل التي حُشِدت في المنطقة للقضاء على آخر معاقل الحريّة، فإنّ الاعتراض والوقوف بوجه الظلم، واستمرارنا في توثيق الحقائق والكتابة بلا هوادة، يشكّل بحدِّ ذاته رفضًا قاطعًا لهذا الواقع المرير.
كيف يمكن أن نبقى صامتين بينما يُذبح الأبرياء، والعالم يشاهد بلا مبالاة؟
وعلى الرغم من أنّ المقاومة الفعليّة تتجسّد في ميدان المعركة، وفي الصامدين على الأرض من الضحايا الذين يدفعون الثمن يوميًا بالدم والأرواح، فإنّ دعم الصمود والوقوف إلى جانب الضحايا يجب أن يمتدَّ إلى كلِّ مساحاتِ الحياة. فعندما نكتب ونوثّق، ونُسمِع صوتنا، ونتظاهر، ونتبرّع، ونقاطع، وعندما نُعبّر عن استنكارنا للظلم، نُجسّد نوعًا آخر من إسنادِ المقاومة والصمود. إسناد قد لا يعفينا من المسؤوليّة، ولكنه قد يخفّف من عجزنا وخجلنا.
الفكرة الأوليّة لهذه المقالة هذا الصباح، كانت عبارة عن سيلٍ من اللعناتِ والشتائم بحقِّ هذا الكوكب، وكلّ من صَمَتَ تجاه جرائم الاحتلال، ولكنّي بصراحة لم أعد أعرف؛ هل باتت اللعنات تفرّغ الغضب أم تزيده تأجّجًا؟ لكن، ما أنا مُتأكّد منه، أنّه حتى انتصار أهلنا في غزّة ووقف العدوان وتحرّر الأرض والإنسان، فإنّ استمرار دعمنا، أيًا كان، سيترك بصمةً في ضمير العالم، ليؤكّد أنّنا ما زلنا أحياءً، ما زلنا رافضين للذل والاستعباد، وأنّنا سنواصل الوقوف إلى جانب الضحايا ودعم هذا النضال مهما كانت التحدّيات، فالنصرُ يكمن في عدم الاستسلام، وفي رفضِ القبول بالهزيمة، وفي إبقاءِ شعلةِ الأمل متقدة في قلوبنا وقلوب الأجيال القادمة، وعلينا جميعًا أن نستمرَ في التحرّك، فكلُّ دقيقةٍ أخرى يستمر فيها العدوان تعني خسارة عشرات الأوراح البريئة وضياع مئات الأحلام الجميلة.