محطة طنجة القديمة
أبي رجل متعب بالفطرة، يشتغل ليلاً وينام نهاراً، بل لا ينام على الإطلاق، لا ينام إلا بضع دقائق كافية يتسنى له خلالها أن يحلم بحياة أخرى ربما… لست أدري، أبي لم يتعلم البوح بمكامن نفسه للآخرين، بل قيل له وهو لا يزال طفلًا إن الغموض درع تحمي الرجولة، ولكي يكون رجلاً لا بد له أن يكون كتوماً. قسمات أبي تشبه الأرض التي كان على وعد بأن يكون يوماً مسؤولاً عن زرعها وحصادها منذ نعومة أظافره، تحمل ملامحه تعباً يتوارثه أفراد عائلتنا جيلاً بعد جيل.
أحياناً، أعود لكوني طفلة بحضور أبي، طفلة لم تكن تهتم بشكل هندامها بقدر ما تهمها نظافة كتبها ودفاترها المدرسية، طفلة تتأرجح بين مشاعر الحب والرهبة كلما سمعت وقع خطواته قادماً من بعيد. أخفي آثار سعادة جياشة قد تتحول إلى تهمة بقدرة قادر، بل وأقطع أنفاسي كيلا تعزف على مرأى ومسمع منه سمفونية جميلة قد تضْحي دليلاً يدينني أمام مجلس محكمته الموقرة. فالجمال والسعادة والابتسامات التي تتميز بشيء من الشرود جميعها أدلة يتصيدها أبي الذي يقوم بذلك بدافع الحب والخوف لا التحكم. يهتف من بهو المنزل سائلاً أمي التي بالكاد تغادر المطبخ: "أين رقية؟ كم الساعة الآن؟ ألا زالت في المكتبة؟ أم أنها تصول وتجول مع بنات الحرام".
يضع أبي أخطائي تحت المجهر ويحللها كما لو كان صحافياً لدى "الجزيرة"، يقدم الموجز الإخباري الأول على تمام الساعة الثامنة صباحاً أثناء وجبة الإفطار التي أحاول تفاديها قدر المستطاع، أما الموجز المسائي فيتم تقديمه بعد عودتي من الجامعة، وهو ما يستحيل تفاديه. يجلس أحياناً أمام التلفاز، أتساءل أية أفكار تدور في فلك عقله الشارد.
وضبت خيباتي وذكريات الخذلان المتراكمة في حقيبة سفر، غادرت البيت وأنا بالكاد أملك ما يكفي من النقود لاقتناء وجبة عشاء
يمقت أبي صديقتي سعاد، لا لأنها أكثر صديقاتي تحرراً، بل لأنها الوحيدة التي تجرؤ على النظر في عينيه كلما تسمعه يهين أمي بإحدى كلماته اللاذعة، يبدو لي أحياناً كما لو أنها تخترق روحه وتكشف أعمق أسراره من خلال نظراتها الثاقبة. كانت تعاتبه دون أن تتفوه بكلمة. لهذا فعندما يشير أبي إلى صديقاتي بـ"بنات الحرام" فهو يقصد سعاد.
حاولت أمي أن تعلمني أن أحب أبي وأتقبل عيوبه، ولكن ذلك الحب الذي جُبِلْت عليه خلال طفولتي البئيسة ما فتئ يضمحل مع مرور الزمن وتراكم الخيبات. كسر أبي فؤادي قبل أن يتسنى لأي رجل آخر أن يفعل. لا زلت أذكر حفل تخرجي من الثانوية الذي غاب عنه والدي بحجة انشغاله بمشاهدة مباراة كرة قدم لفريقه المفضل. يومها، عدت إلى البيت حاملة شهادتي، منكسة الرأس، دامعة العين. دفنت خيبتي في سريري الدافئ ونمت ليلتها متأهبة لخيبات جديدة.
حينما قررت أن أغادر البيت، لم يكن في نيتي الرحيل دون وداع أخير، لكن والدي اختار أن يجعل الأمور أكثر تعقيداً مما كان ينبغي لها أن تكون. "لن تخرجي من منزلي إلا في فستان زفاف أو في كفن!" هكذا حكم علي أبي بالموت بجملة واحدة، لم يهتز له جفن وهو يدينني للمرة الألف ويحطم أحلامي إلى أشلاء متناثرة.
وضبت خيباتي وذكريات الخذلان المتراكمة في حقيبة سفر، غادرت البيت وأنا بالكاد أملك ما يكفي من النقود لاقتناء وجبة عشاء ولا أعرف إلى أي وجهة سيسوقني القدر هذه المرة.
ملامح الماضي الغريب تبدو مألوفة لي وأنا أحدق في مرايا الخيال. أعيش اليوم من خلال لحظة "ديجافو" ونوستالجيا خانقة تذكرني بماضٍ لا يشبه الحاضر في شيء. أحمل حقيبتي وأنتظر القطار الذي يفترض به أن يوصلني إلى وجهة مجهولة. تنبثق أكاذيبي من حيث لا أدري، الواحدة تلو الأخرى، تولد من عدم لتشي بمكامن نفسي وتعلق نوايايَ المبهمة في الهواء الطلق ليشاهدها سكان المدينة بأكملها كما لو كانت فيلماً وثائقياً. لست أعرف لماذا ينتابني شعور غريب بأنني كتاب مفتوح وأنا أقف في محطة القطار، أودع الدار البيضاء بنظرات حزينة. يُخيل إليَّ كما لو أن كل مسافر على متن هذا القطار يعرفني، يتهامسون فيما بينهم: "هذه الفتاة هاربة! لقد فضلت الفرار على المواجهة، ولكنها ستقع في قبضة عناصر الشرطة لا محالة. سيعاقبها المجتمع بأكمله على جرأتها المعدية. نحن مجتمع محافظ، نساؤنا لا يدرسن ولا يشتغلن!".
وفي خضم تيهي، الذي كاد أن يجرني إلى نقطة الصفر ويعودَ بي إلى جحر الوحش، جاء صوتها كملاك مرشد، جاء الخلاص على هيئة صوت نسائي يقول: "محطة طنجة المدينة".