مخاطر مراكز البيانات في الدول المستبدة
في عصر يتسم بانتشار البيانات، التي باتت تعدّ أحد أهم أصول الحكومات والشركات والأفراد، يتسابق عمالقة تكنولوجيا المعلومات لإنشاء مراكز بيانات ضخمة لتلبية الطلب المتزايد باستمرار على الخدمات الرقمية وخدمات حفظ وتخزين البيانات، حيث تعتبر هذه المراكز العمود الفقري للعالم الرقمي، من خلال تخزينها كميات فلكية من البيانات.
ومع ذلك، عندما يقرّر عمالقة التكنولوجيا بناء مراكز البيانات الخاصة بهم في البلدان التي تحكمها أنظمة استبدادية من أجل زيادة أرباحهم، فإنهم يعرّضون أنفسهم وعملاءهم ومستخدميهم للعديد من المخاطر التي لا ينبغي الاستهانة بها، حيث يتوسّع نطاق استغلال البيانات ليشمل فرض السيطرة السياسية، والقمع والترهيب والابتزاز، وحتى التخريب.
إحدى أهم المخاوف الناجمة عن استضافة مراكز البيانات في الدول التي تحكمها أنظمة مستبدة، تتمثّل في المساس بخصوصية بيانات المستخدمين وإساءة استخدامها. فغالباً ما يكون لدى الأنظمة الاستبدادية قوانين حماية بيانات ضعيفة وفضفاضة، أو قد تكون هذه التشريعات غير موجودة أصلاً، وحتى في حال وجودها، فالأنظمة الاستبدادية معروفة بعدم احترامها حتى للتشريعات التي تضعها، ما يمكّن هذه السلطات وشركاءها من الوصول إلى البيانات ومراقبتها دون أيّ إشراف أو مساءلة تذكر.
ويثير الافتقار إلى الضمانات القانونية مخاوف بشأن كيفية التعامل مع بيانات المستخدمين ومن يمكنه الوصول إليها، مخاوف ما زالت شركات التكنولوجيا العملاقة تضرب بها عرض الحائط. ففي مثل هذه البيئات، تكون المعلومات الشخصية للمستخدمين عرضة لخطر سوء الاستخدام أو المراقبة والتجسّس، مع زيادة مخاطر استهداف المعارضين السياسيين والحقوقيين ونشطاء المجتمع المدني، استهداف قد يصل إلى حدّ التصفية الجسدية.
ولطالما كانت خصوصية البيانات وملكيتها هي الفتيل الذي فجّر كثيراً من الصراعات بين الولايات المتحدة الأميركية والصين في السنوات الأخيرة، صراعات متعلّقة بتخزين بيانات المستخدمين، والوصول لها من قبل شركات التقنية الصينية، مما قد يتيح للحكومة الصينية الوصول لبيانات الأميركيين، وشخصياً ليس لديّ أدنى ثقة في حكومتي الدولتين عندما يتعلّق الأمر باحترام خصوصية بيانات المستخدمين.
وهذا يثير تساؤلات حول من يملك البيانات، ومن لديه الحق في الوصول إليها، مما سيؤدي بلا شك إلى صراعات بين شركات التكنولوجيا والحكومات، ولكن بعد فوات الأوان حيث سيكون المتضرّر الأكبر المستخدمين ممن تُسرق بياناتهم الشخصية ويُساء استغلالها.
ما زال بعض عمالقة التكنولوجيا يقدّمون بيانات المستخدمين للمستبدين على طبق من ذهب من خلال إنشاء مراكز البيانات الضخمة في البلدان التي يسيطرون عليها
باختصار، في حال إنشاء الشركات العملاقة مراكز بيانات ضخمة في الدول الاستبدادية، فإنّها ستُعرّض حياة العديد من الناس للخطر. ويجب أن نتذكر أنّ كثيراً من هذه الأنظمة حول العالم، استماتت سابقاً في استهداف بيانات المستخدمين في فضائح مدوية، لم تقتصر على التجسّس على الناشطين من خلال برمجيات خبيثة كـ"بيغاسوس"، فقد زرع آخرون موظفين في شركات عملاقة لسرقة بيانات شخصيات معارضة وناشطين، بينما رعى غيرهم أنشطة قرصنة دولية للتأثير على مشهد السياسة العالمي. وعلى الرغم من كلّ ذلك، ما زال بعض عمالقة التكنولوجيا يقدّمون بيانات المستخدمين للمستبدين على طبق من ذهب، من خلال إنشاء مراكز البيانات الضخمة في البلدان التي يسيطرون عليها.
كما تميل الحكومات الاستبدادية إلى فرض رقابة مشدّدة على تدفق المعلومات والمحتوى عبر الإنترنت، وبعضها يقوم بقوننة مثل هذه الأفعال، ليشهرها كسيف مصلّت على رقاب الحريات، يُسكت من خلاله أيّ صوت معارض أو رأي مخالف، بدءًا من حجب المواقع المستقلة، إلى قطع الإنترنت تماماً عند الاضطرابات السياسية والاحتجاجات الاجتماعية.
وعندما تقوم شركات تكنولوجيا المعلومات العملاقة بإنشاء مراكز بيانات في هذه البلدان، فهي موافقة على الامتثال لقوانين الرقابة والقيود المفروضة على المحتوى والبيانات لديها، مما يعرّي زيف ادعائها بالالتزام بحرية التعبير، بما يجعلها شريكة في تعريض الحريات للخطر وقمع المعلومات والأفكار، وفي النهاية سيكون المتضرّر الأكبر هو المستخدم ومشهد الحريات والديمقراطية.
سنبقى نحن كأفراد مستخدمين لتقنيات شركات التكنولوجيا العملاقة وقواعد بياناتها أكبر المتضرّرين من إنشاء مراكز بيانات ضخمة في البلدان التي تحكمها أنظمة استبدادية
ومهما راوغ عمالقة التكنولوجيا اللاهثين وراء المال، فإنهم لن يستطيعوا التملّص من المعضلات القانونية والأخلاقية التي سيضعهم أمامها إنشاء مثل هذه المراكز، حيث سيُطلب منهم بالتأكيد، كما أشرت سابقاً، الالتزام بالقوانين المحلية التي في الغالب ستكون غير متوافقة مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان بحجة الخصوصية المحلية.
وتواجه هذه الشركات انتقادات واحتجاجات من الداخل من قبل موظفيها، كما شهدنا في حالات عدّة خلال السنوات الأخيرة، حيث يُظهر كثير من العاملين في هذا القطاع على المستوى العالمي وعياً كبيراً تجاه القضايا الحقوقية والأخلاقية، ويعارض الكثير منهم دعم أنظمة ذات سجلات مشكوك فيها في مجال حقوق الإنسان.
في الختام، بشكل عام في مجال حماية الحرية والخصوصية، لا نستطيع الثقة بالحكومات ولا الشركات العملاقة أياً كانت، وسنبقى نحن كأفراد مستخدمين لتقنيات شركات التكنولوجيا العملاقة وقواعد بياناتها أكبر المتضرّرين من إنشاء مراكز بيانات ضخمة في البلدان التي تحكمها أنظمة استبدادية.
ولا يمكن بأيّ حال تجاهل المخاطر الكبيرة المرتبطة بمثل هذه المساعي، وعلينا معارضة مثل هذا التوجه، واستخدام جميع الأدوات المتاحة للدعوة إلى فضاء رقمي أكثر انفتاحاً وأماناً وأخلاقاً، فضاء يقدّر الحقوق والحريات الفردية، ويعطي الأولوية لرفاهية الأفراد وخصوصيتهم في عالم متزايد الترابط.
وعلينا دائماً تذكير شركات التكنولوجيا أثناء تنقلها في المشهد المعقّد للأعمال التجارية الدولية، بأنّ عليها أن تفكر بعناية في المفاضلات بين الربح والمبادئ، وأن نرفع كلفة أيّة محاولة من قبلها لإساءة استغلال البيانات والاعتداء على خصوصية الناس.