مخك في رأسك تعرف خلاصك
سألتني: هل من الممكن أن توجد غرفة عمليات في المستقبل المنظور لتجميل الأفكار المشوَّهة في المخ البشري أسوة بعمليات التجميل الشائعة اليوم في مختلف أجزاء جسم الإنسان لتحسين المظهر العام، بإخفاء العيوب، وخصوصاً عند النساء؟ فاجأني السؤال، فقلتُ: أغلب الظّن أن العملية ممكنة، ولكنها معقَّدة تعقيداً ضخماً على ما أحسب، ودقيقة جداً في نتائجها، وإن لم تنجح لا سمح الله يذهب واحدنا "في ستين داهية". من الصعب أن نلعب بأمخاخ الأشخاص وأفكارهم، لأن أفكارهم في الحقيقة ليست بنت يومها، ولكنها نتيجة تراكم معرفي لسنوات طويلة.
في الواقع المعيش، الأفكار بنت بيئتها، تنبت في المخ كما ينبت الزرع، منه الورد، ومنه الشوك. لذلك، من الصعوبة بمكان تصحيح الأفكار التي نمت في المخ بشكل مشوّه والعودة بها إلى جادة الصواب والتفكير المستقيم. وهذه الظاهرة انتبه إليها الدكتور روبرت هنري ثاولس، الأستاذ في جامعة كمبردج، الذي كان يشغل منصب محاضر في علم النفس بجامعتي مانشستر وغلاسغو، وله عدة كتب، منها: "سيطرة العقل"، و"علم النفس العام والاجتماعي"، وكتابه المهم الذي تُرجم إلى العربية وصدر عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية في أغسطس/آب 1979 تحت عنوان "التفكير المستقيم والتفكير الأعوج"، وقد أراد من خلال كتابه أن يساهم في عمليات تجميل الأفكار أو تصحيحها. هل نجح في مسعاه؟ نعم، لقد نجح في أماكن من العالم، وفشل في أماكن أخرى.
في غرف العمليات، تستطيع تصحيح وتيرة الأنف العوجاء التي تتسبب بصوت الشخير الذي يقلق ليل العائلة. تعمل للأنف عملية تجميل، بحيث يصبح أكثر رقة وجمالاً، ويمكن لصاحب الأنف أن يذهب إلى بيته في اليوم نفسه. ولكن كيف يمكننا تصحيح ما في المخ من أفكار نبتت كالأعشاب الضارة في الحقل المزروع، لأن تهذيب الأفكار أو تصحيحها في المخ البشري أصعب مما نتصور؟ خطرت في بالي مسرحية مهمة قرأتها من زمن بعيد عنوانها: "من هو الميت؟". مسرحية تناسب هذا المقال، مؤلفها التركي جودت فهمي باشكوت، ونشرتها وزارة الثقافة السورية بقلم المُترجم السوري جوزيف ناشف. أعجبتني المسرحية يومها، فقرأتها بشغف، واستمتعت كثيراً بمشاهدها المكتوبة بموهبة وخبرة عالية.
في حقيقة الأمر إن المخ البشري هو العضو الوحيد في عالم الأحياء الذي يختزن المعلومات لمدة تزيد عن مائة عام
تدور أحداث المسرحية حول إمكانية تبديل الأمخاخ البشرية بين هذا وذاك، وهنا تكمن مفارقاتها الهزلية، فهي من المسرح الساخر الذي كان يُجيد كتابته التركي جودت فهمي باشكوت.
في حقيقة الأمر، إن المخ البشري هو العضو الوحيد في عالم الأحياء الذي يختزن المعلومات لمدة تزيد على مائة عام. وبالنظر إلى ما فيه من تعقيدات، وإلى ما يتمتع به من مقدرة على خلق الأفكار، فإن المخ البشري بلا شك هو أكثر الكتل الحية غموضاً وفعالية على كوكب الأرض.
في أحد البحوث المعروفة جيداً في الدراسات العصبية وُجد أن الفأر الصغير إذا ما وضع في وسط مليء باللعب ورفاق اللعب، أي في بيئة مزودة بوسائل الإثراء، فإن قشرة مخه تبدأ بالنمو بعد عدة أيام، وقد اكتُشف أن المبدأ نفسه ينطبق على الفئران المعمَّرة، التي يتناسب عمرها الافتراضي مع عمر إنسان يراوح بين عمر الخامسة والسبعين والتسعين سنة. وما يقصد هنا بالنمو، زيادة في حجم الخلايا العصبية لا في عددها، فالخلايا قد انقسمت والتغصنات -من غصون الشجر- قد نمت وانتهى الأمر، والذي يحدث حقيقة هو زيادة في المشابك التغصنية العصبية والوصلات بعد المشابك قد زادت في الطول، وبعبارة أخرى، فإن كل جزء في الخلية العصبية قد تضخم.
والذي يحدث عندما يتقدم العمر بالأحياء، تناقص أو انكماش أو تقلص في حجم المخ. انكماش في حجم المخ؟ هل تحكي عن جد؟ وكيف يكون ذلك؟ يا سيدي، ذلك لا يعني بالضرورة أن المخ يفقد خلاياه، بل إن الاستطالات الخلوية تتجعَّد، بمعنى تصبح بخيلة، وتمسي أقل حيوية وفعالية، فتتساقط، وتصير الخلايا العصبية أكثر تلاصقاً. تتجعَّد، وتتساقط؟ نعم تتساقط، ولشرح هذه الفكرة نستعمل اليد، فكف اليد هو جسم الخلية، والأصابع هي التغصنات أو الاستطالات، ومع الاستعمال يمكن حفظ هذه المشابك والتغصنات ممتدة في مكانها وتعمل جيداً، ولكن من دون البيئة المدعومة بالإثراء فإنها تنكمش، فالأمر بكل بساطة استعملها وإلا فستفقدها، نعم، بكل تأكيد، مخك في رأسك تعرف خلاصك، استعمله، أقصد مخك، وإلا فستفقده.