مراهقو فلسطين يكتبون وصاياهم
".. وبينما كان عبد الرحمن حمد، وهو طالب في المدرسة الثانوية، عائداً من المدرسة إلى منزله، أطلق جندي إسرائيلي النار عليه فأصابه في بطنه، ما أدى إلى مقتله. بعد وفاته ظهرت رسالة كتبها لعائلته قبل نصف عام. كانت تلك وصيته".
تبدو هذه المقدمة كما لو كانت قصة في كتاب القراءة المدرسي. موضوع إنشائي قد يكون اقتُبس من رواية ما مخصّصة للفتيان، شيء من وحي خيال الكاتب. لكن ما إن تكمل النص حتى تتنبه إلى أنه ليس كذلك، بل هو موضوع إخباري جرت أحداثه، فقط، منذ أيام.
يُكمل النص الموجع فيقول "إنه واحد من العديد من المراهقين في الضفة الغربية الذين يكتبون وصاياهم. عبد الرحمن حمد كتب وصية أخيرة: نص طويل مع تعليمات مفصلة، بخط يده الدقيق. وفي الحقيقة، يتزايد عدد المراهقين الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة الذين يكتبون وصاياهم هذه الأيام، وبكثافة أكبر في أعقاب الأحداث التي شهدها قطاع غزة. وقد طلب حمد أن يتم دفنه في أسرع وقت ممكن، كما طلب من عائلته استخدام لقطة جيدة له كصورة شخصية له على مواقع التواصل الاجتماعي وإضافة آية دعاء بجانبها، وفوق كل شيء عدم الحداد على وفاته".
وكتب: "لا تضعوني في الثلاجة، ادفنوني على الفور. ضعوني على سريري، غطوني بالبطانيات، خذوني إلى القبر. (..) تذكروا فقط ذكرياتي الجميلة ولا تحزنوا علي، لا أريد أن يحزن أحد". ويكمل المقال الذي نشرته صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية في 17 من فبراير/ شباط الجاري، فيقول إن حمد كتب الوصية بالتحديد في 18 يوليو/ تموز الماضي وأعطاها لصديق لحفظها. وأنّ الكاتب اطلع عليها من هاتف الأب بعد استشهاد عبد الرحمن خلال الأحداث الأخيرة في نابلس.
كان عبد الرحمن يتوقّع الموت في أيّة لحظة بالرغم من شبابه الغض، بالرغم من عدم قيامه بأي فعل مقاوم، اللهم إلا البقاء في أرضه، في بيته، في مدرسته
إذن، كان عبد الرحمن عائدًا من المدرسة، لم يكن بصدد طعن أحد أو دهس أحد. كان مجرّد طالب ثانوية، عليه التفكير بالتخصّص الذي سيدرسه في الجامعة السنة المقبلة. ومع ذلك، كتب عبد الرحمن وصيته!
أي أنّه كان يتوقّع الموت في أيّة لحظة بالرغم من شبابه الغض، بالرغم من عدم قيامه بأيّ فعل مقاوم، اللهم إلّا البقاء في أرضه، في بيته، في مدرسته، وليس في غزّة بل في الضفة الغربية، تحت سلطة ما يسمّى تجاوزًا السلطة الفلسطينية التي يجب إضافة كلمة المحتلة إليها.
وما يثير الأسى في النفس أنّ عبد الرحمن ليس حالة فريدة. فالظاهرة، حسب الصحيفة الإسرائيلية، تعرف تزايدًا لافتاً بين مراهقي الضفة.
قلت في نفسي فلأتأكد.
ما إن طبعت الكلمات في محرّك البحث حتى ظهرت وصايا كثيرة، بتواريخ تعود إلى سنوات مضت، وأخرى منذ بضعة أسابيع وغيرها منذ أيام. بينها وصية تداولتها المواقع بشكلٍ كثيف لطفلة لا يتجاوز سنها السنوات السبع، قُتلت في قطاع غزّة بالهجوم الصاروخي على مستشفى المعمداني الشهير.
الطفلة اسمها هيا، وكتبت وصيتها على دفتر مدرسي مخطّط، مع رسومٍ لقلوبٍ وزهور زيّنت بها الأسماء التي وردت فيها.
خصّت هيا والدتها بالقسم الأكبر من "ثروتها"، أي 45 شيكل. وقسّمت الباقي "خمسة شيكل لزينة وخمسة لهاشم وخمسة لتيتا (أي الجدة) وخمسة لخالتو مريم وخمسة لخالتو هبة وخمسة لخالو عبود وخمسة لخالو أسامة". ثم تكتب تحت البند 4 "أما أحذيتي فأعطوها للفقراء والمساكين، بعد غسلها طبعاً".
موت منتظر في أيّ وقت، برصاصِ عدو يبيّت نيّة الإبادة منذ تأسيس كيانه
مزيد من التفتيش. وصية لمراهق آخر هو غيث يامن (16عاماً) من نابلس. لم يكن غيث عائداً من المدرسة كما عبد الرحمن، كان يقف فوق أحد الأسطح يراقب وأترابه مسيرة اقتحام المستوطنين لقبر يوسف بحماية الجيش الإسرائيلي. كان ذلك في شهر أيار/ مايو من عام 2022. إلا أنّ القنّاص الإسرائيلي اختار غيث وقتله برصاصة متفجرة في الرأس. يبكي الأب الثاكل، ويقول إنّه لا يفهم كيف طاوع الجندي قلبه أن يفجر رأس الفتى بتلك الرصاصة.
يوصي غيث ألا يضعوا جسده في ثلاجة الموتى "لأنه برد"، وأن يدفنوه بجانب قبور أطفال آخرين، كي لا يبقي وحيداً، كما قال في وصيته، وكذلك ألا يغلقوا حسابه على مواقع التواصل الاجتماعي "لكي يتذكرني الناس دوماً".
ومع أنّه أوصى بألا يدخلوه ثلاجة الموتى، إلّا أنّ أصدقاءه بكوا وهم ينتظرون خارج المستشفى خروج جثمانه من الثلاجة الباردة. يقول صديق له إنّ غيث "تأثر كثيراً لمقتل أدھم مبروكة وإبراھیم النابلسي ومحمد الدخیل في نابلس"، ولذلك، ربّما، قام بكتابة وصيته.
كلّنا كبشر لا نعلم متى، وأين يكون موتنا، وكيف، إلّا فتيان فلسطين، فكلّ الاحتمالات تشير إلى ما يشبه الموت المحتوم بيدٍ إسرائيلية
كلّنا كبشر لا نعلم متى، وأين يكون موتنا، وكيف، إلّا فتيان فلسطين، فكلّ الاحتمالات تشير إلى ما يشبه الموت المحتوم بيدٍ إسرائيلية. موت منتظر في أيّ وقت، برصاصِ عدو يبيّت نيّة الإبادة منذ تأسيس كيانه، وهو يقوم بها يومياً، إمّا بقتل الفلسطينيين فرداً فرداً بحجج مختلفة، أو بالقتل الجماعي كما يحصل اليوم في حرب بات الجميع يصفها بوصفها الواضح كالشمس: حرب إبادة.
شهيدان قاصران آخران: آدم عياد وعمرو الخمور من مخيم الدهيشة. أعدم الشهيدان بدم بارد منذ سنة تقريباً حسب مقالة في صحيفة القدس. تضيف المقالة "وجدت وصيتاهما في قميصيهما المبتلين بدمائهما مدسوستين لجهة القلب، بعد مقتلهما".
بم أوصى الشهيدان؟ هل هذا هو المهم؟
ما هو مهم هو أنه، وبينما يمضي مراهقو العالم أيامهم بالتمرّد، بالتجريب، حتى بمكافحة حب الشباب، يمضي مراهقو فلسطين وقتهم بتحيّن موتهم، بكتابة أسمائهم على سواعدهم لتسهيل التعرّف إليهم لو مزقتهم صواريخ العدو إلى أشلاء، بكتابة وصاياهم لما بعد استشهاد باتوا يتوّقعونه في أيّة لحظة، ولأيّ سبب، ولو كان مجرّد المرور عابرين أثناء عودتهم من مدارسهم أمام قناص إسرائيلي جاء من بلادٍ بعيدة، يريد أن يقتل الوقت. قناص مهمته إسكات كلّ من يجرؤ على قول "هذه الأرض لي"، ولو بصوتٍ خفيض، ولو بنظرة، ولو بمجرّد وجوده هنا، طفلاً يكبر على أرضه، فلا يكبر على أرضه.