مصر: "2+2=5"
شهادة من الداخل
كيف فرض النظام المصري سرديته على القنوات المحلية بعد الانقلاب العسكري 2013..
في الفيلم الإيراني القصير "اثنان واثنان" تدور الأحداث داخل مدرسة يبدو فيها المدرس مستبدًا، يكتب على السبورة "2+2=5" ويطلب من التلاميذ ترديدها، الطلاب يتمنعون، ولكن تحت تأثير العصا والخوف من المدير الذي طالبهم بالانصياع للمدرس يرددون خلفه، عدا طالب واحد يردد: "اثنان زائد اثنان يساوي أربعة"، يضربه المدرس ويزجره قبل أن يأتي له بالشرطة المدرسية التي ترديه قتيلًا، ويصيح المدرس من جديد: "اثنان زائد اثنان يساوي خمسة"، فيردد الطلاب ما قاله المدرس تحت تأثير الخوف من مصير الطالب القتيل، يأمرهم المدرس بتدوينها في دفاترهم يدونونها جميعًا عدا طالب واحد يكتبها: "2+2=4".
"التظاهر إرهاب".. "المتظاهر القتيل أعدم نفسه".. "الطلقات في بطنه ورأسه كانت محاولات فاشلة للانتحار أو قتله والده".. ملخص سريع، لكنه وافٍ لمانشيتات صحف وعناوين نشرات الأخبار المحلية والبرامج الحوارية في صيف عام 2013 بالقاهرة.
كيف استطاع الانقلاب العسكري مبكرًا فرض سرديته في الأخبار اليومية قبل أن ينتج مسلسلًا دراميًا سماه كذبًا (تاريخيًا) يجعل من القاتل قتيلًا ومن القتيل قاتلًا؟
"لقد لاحظت في مرحلة مبكرة أن الصحف لا تنقل أبدًا أي حدث كما حدث فعلًا". لم يكن جورج أورويل يدري عندما كتب هذه الكلمات أن أيًا كان ما قرأه في الصحف لن يصل لفجاجة ما نقلته وسائل الإعلام المصرية صيف 2013 اللاهب في القاهرة، في هذا المقال أدلي بشهادتي بصفتي واحدًا ممن كانوا بالقرب من المشهد الإعلامي المحلي حينها، وسأحرص أن تكون الشهادة مرتبة بتسلسل زمني مع مراعاة عدم الإطالة والاكتفاء بالمشاهد الهامة.
في هذا الصيف كنت أعمل مراسلًا من القاهرة لشبكة قنوات شهيرة مقرها الرئيسي (دبي - الإمارات)، تميزت تغطية الأخبار بالتوازن طيلة فترة محمد مرسي، والتي لم تدم طويلًا، حتى وصلنا إلى الثالث من يوليو/ تموز 2013 حينما أصدر وزير الدفاع حينها والرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي بيان الانقلاب العسكري، وتبعه بإغلاق جميع القنوات، عدا التابعة لسيطرة السلطة الجديدة وأصدقائها. تغطيتنا لم تتأثر كثيرًا بالواقع الجديد في يومه الأول، ولكن مع مرور الساعات والأيام التالية للثالث من يوليو بدأت جمهورية الخوف تتشكل في الشارع وتتشكل في الإعلام أيضاً، وعرفنا الرقيب العسكري، الذي نستطيع أن نسميه (المدير الخفي)، الموجود دومًا في (جاليري القناة) لمراقبة كل كلمة يقولها المذيعون والمراسلون، وللتحكم في التغطيات وتوجيهها إلخ، ولم يكن هذا حال قناتنا وحدها، فكل القنوات العاملة من مصر في ذلك الوقت كان يقودها ضابط من الشؤون المعنوية للجيش أو ما يُعرف بـ"الرقيب العسكري".
8 يوليو: مذبحة الحرس الجمهوري
لأن القناة لم تكن قناة محلية بشكل كامل ومقرها الرئيسي دبي (صديقة وعرابة السلطة الجديدة)، كان تعامل الجيش معنا مختلفًا وغير عنيف، سُمح لنا بتغطية اعتصام رابعة العدوية في البداية بحرية، وأجرينا مقابلات وتغطيات مباشرة خلال الأيام الأولى بعد الانقلاب. التحرك الأول للرقيب العسكري داخل القناة بدأ بعد الانقلاب بخمسة أيام تزامنًا مع مذبحة الحرس الجمهوري، كنت مكلفًا من القناة بتغطية اعتصام رابعة العدوية بشكل دائم.
بعد وصولي إلى مكان المذبحة، وثقت مشاهداتي الأولية: "عشرات الجثث داخل المستشفى الميداني، بقع دماء منتشرة بطول المكان، فوارغ رصاصات (ميري)، آثار الرصاص على واجهات المباني في اتجاه واحد، اتجاه المتظاهرين"، وهو ما ذكرتُه على الهواء مباشرة، استخدمت قوات الجيش الرصاص الحي، وبقيت آثاره على واجهات المباني منطلقة من اتجاه واحد، ما يعني أن الجيش هو الذي أطلق النار ولم أجد آثارًا في الاتجاه المقابل، ما يعني أن المعتصمين لم يطلقوا رصاصًا، ولم يكونوا في حالة هجوم لاقتحام مبنى الحرس الجمهوري كما ذكرت الرواية الرسمية حينها.
طالبت القناة من لا ينوي الالتزام بهذه السياسة بالاستقالة، استقلت بعدها بأيام رفقة زميل آخر، قبل أن تقوم قوات الأمن باعتقاله، وتحاول اعتقالي، فسافرت إلى خارج مصر في الحال
بمجرد انتهاء التغطية، تلقيت اتصالًا من مسؤول رفيع داخل القناة قال لي إن هذا مخالف للسياسة التحريرية و"عايزين نهدي الأمور، والجيش عمره ما يعمل كده"، أخبرته بأن هذا ما رأيته ويتفق مع روايات شهود العيان الذين قابلتهم.
بعدها بساعتين تلقيت اتصالًا آخر من "رقم خاص" عرف عن نفسه أنه الرائد وليد من الشؤون المعنوية للقوات المسلحة، وطلب حضوري إلى داخل مبنى الحرس الجمهوري ممثلًا عن القناة لتصوير "دليل محاولة اقتحام المبنى والأسلحة التي عثروا عليها". كاميرات عدد من القنوات المحلية كانت موجودة أيضاً لتصور "الدليل القاطع"، بحسب رواية الرائد. بعدها بقليل كشف عن الأحراز التي كانت (زجاج متناثر، مجموعة من العصي، عدة قطع من النِبل، و4 قطع خرطوش محلي). لم يكن هناك وجود لأسلحة آلية، وهذه الأغراض ليست كافية لاقتحام مبنى سكني، فما بالنا باقتحام مبنى عسكري مدجج بالحراسة بكل أنواع الأسلحة، لسان حالي: "دان نفسه من حيث أراد أن يبرّئها".
لاحقًا طلب مني مدير القناة، وهو صحافي مخضرم غير مصري، الحضور إلى مكتبه، وقال لي ما ملخصه إن الجميع يعلمون أن هذا انقلاب، ولكن لا نستطيع إعلان ذلك، ومن الآن وصاعدًا تُمنع لفظة "الانقلاب العسكري"، طالبًا مني الأخذ في الاعتبار أنني مصري، فيما يحمل هو جنسية أوروبية تكفي لحمايته، موجهًا حديثه إلىَّ: "في حال اقتحم الجيش القناة مثلما فعل مع قنوات أخرى، وطلب اعتقالك، من يحميك؟!".
12 يوليو: تزامنًا مع وصول أول وفد عربي رسمي إماراتي إلى القاهرة بعد الانقلاب
مع بدايات شهر رمضان، كان عدد معتصمي رابعة آخذًا في الزيادة، وفي ذلك اليوم وتزامنًا مع وصول أول وفد عربي رسمي إلى القاهرة بعد عزل مرسي، وكان بطبيعة الحال وفدًا إماراتيًا رفيعًا برئاسة مستشار هيئة الأمن الوطني الإماراتي هزاع بن زايد، حولت منصة الاعتصام الرئيسية خطاباتها ولافتاتها بشكل نوعي إلى "نعم للديمقراطية" و"ضد الانقلاب"، بدلًا من الشعار القديم "نعم للشرعية". تغير خطاب المنصة أضفى لمسة مختلفة على الشكل العام للاعتصام واستطاع جذب شرائح جديدة من خارج الإسلاميين.
خرجت على الهواء مباشرة لأطرح هذه التغييرات ولأتحدث عن مئات الآلاف الذين وصلوا إلى الاعتصام بعد مسيرات جاءت من مناطق مختلفة من القاهرة، وحرصت على ذكر لفظة "الانقلاب العسكري" عدة مرات بين ثنايا الكلام، أثناء حديثي فوجئت بصراخ في أذني عبر السماعة التي تربطني بالقناة يطلب مني التوقف حالًا، ويأمر المذيع بمقاطعتي فورًا، اتضح في ما بعد أن الرقيب العسكري قرر إيقافي عدة أيام، لأن صياغاتي وطريقة تغطيتي لم تعجبه، وتوقفت القناة عن التغطيات الحية من اعتصام رابعة منذ ذلك الوقت.
26 يوليو: جمعة تفويض الجيش
بعد انقضاء فترة الإيقاف كان أول عمل هو تغطية "مظاهرات تفويض الجيش" التي طلبها السيسي للتصريح له بمحاربة ما سماه "الإرهاب المحتمل". القناة طلبت مني التغطية من منطقة (قصر الاتحادية الرئاسي) القريب من (ميدان رابعة)، مدير المراسلين اتصل بي هاتفيًا صباح ذلك اليوم للتأكيد على منع ذكر معتصمي رابعة أو أي شيء يخص الطرف الآخر، مستدركًا "اليوم عايزين تطبيل للجيش وبس" وممنوع أي شيء سلبي عن مظاهرات السيسي. أجبته باقتضاب سأكون موضوعيًا لا تقلق.
خلال ذلك اليوم، نشرت عدة قنوات أخرى فيديوهات لمظاهرات رافضة للجيش أنها مظاهرات مؤيدة له.
بعد ذلك، منعت القناة المراسلين غير التابعين للسلطة الجديدة من التغطية المباشرة في اللحظات الفارقة، في تغطيات فض اعتصام رابعة والنهضة على سبيل المثال وما تلاها من مذابح، وحرصت أن يكون البث المباشر مقتصرًا في تلك الأحداث على مراسلين متماهين مع سرديات الجيش وتربطهم علاقات جيدة مع الرقباء العسكريين داخل القنوات.
14 أغسطس/ آب: مجزرة رابعة العدوية
مساء الثلاثاء 13 أغسطس/ آب، ورد تكليف من الرقباء العسكريين لمراسلي ومصوري القنوات المحلية بالاستعداد لتغطية حدث هام في مدينة نصر- المنطقة التي تضم اعتصام رابعة- صباح يوم الأربعاء، وجاءت تكليفات القنوات للمراسلين واضحة بضرورة التصوير من جانب قوات الأمن، ووقوف سيارات البث المباشر خلف قوات الجيش لتصوير المشهد من زاوية واحدة فقط، والحفاظ على الرواية الرسمية، واستضافة متحدثين باسم القوات المسلحة فقط طيلة اليوم، ولما كانت القنوات قد منعت أي مراسل مشكوك في تبعيته للجيش من تغطية ذلك اليوم، لم تخرج قناة واحدة أو مراسل واحد عن النسق الذي أرادته السلطة.
أكتوبر/ تشرين الأول 2013
طالبت إدارة القناة باجتماع عاجل لجميع المراسلين والصحافيين العاملين على الملف المحلي المصري ووزعت عليهم شفهيًا السياسة التحريرية الجديدة، التي أستطيع أن ألخصها في عدة نقاط:
- المظاهرات الرافضة للجيش من الآن وصاعدًا تُوصف بالإرهاب عند ذكرها.
- من يهاجمون المظاهرات بالحجارة أو بالأسلحة يوصفون بالأهالي بدلًا من البلطجية.
- ممنوع منعًا باتًا ذكر لفظة الانقلاب العسكري أو الشرعية.
وطالبت القناة من لا ينوي الالتزام بهذه السياسة بالاستقالة. استقلت بعدها بأيام رفقة زميل آخر، قبل أن تقوم قوات الأمن باعتقاله، وتحاول اعتقالي، فسافرت إلى خارج مصر في الحال.
هذه الشهادة عن أحداث مرت منذ 8 سنوات مرت على خاطري وتتابعت صورها في الذاكرة كأنها البارحة عندما تابعت مسلسل "الاختيار 2"، الذي تبثه الدولة حاليا بغرض فرض سرديتها (الكاذبة) عما حدث منذ 8 سنوات، وتذكرت تجربتي مع محاولاتهم الأولى لفرض سرديتهم يومًا بيوم عبر القنوات.
في الأربعينيات كتب الروائي الإنكليزي جورج أورويل: "من يتحكم في الوقت الحالي يستطيع التحكم في الماضي"، وافقه الشاعر المصري أحمد شوقي حينما كتب: "كل شيء في مصر يُنسى بعد حين"، قبل أن يقول الأديب نجيب محفوظ: "آفة حارتنا النسيان".
حين يقرأ الطغاة ذلك يظنون أنهم يملكون عصا سحرية لتزوير كل شيء متناسين أن الزمان غير الزمان، وأن ما كان سهلًا في بدايات القرن الـ20 صار مستحيلًا في القرن 21، وأن الإنترنت ومقاطع الفيديو والشهادات المكتوبة والشهود الأحياء سيجيبون عن سؤال 2+2 بالنتيجة المنطقية.. 4.