مفاتيح ومفاتيح

19 سبتمبر 2024
+ الخط -

ضاعتْ المفاتيح، استغرقَ الأمر بضع دقائق من البحث حتى وجدتها، دقائق من القلق والتفكير... ماذا سأفعل إن لم أجدها؟

مشكلةٌ كبيرة إن ضاع مفتاح ما منك، فإنْ ضاع مفتاح البيت مثلا، ربّما تضطر لخلع الباب، وإن ضاع مفتاح السيارة ربّما تكسر الزجاج لفتحها. ومن منّا لا يمتلك مفتاحاً، من منّا لا يستخدمه يومياً، قطعة معدنيّة بسيطة، لكنّها أساسيّة، تصنيعه بسيط، خفيف الوزن، صغير الحجم، رخيص السعر، وسهل الاستعمال.

في التاريخ، عرفنا أنّ أبواب طروادة استعصتْ على محاصريها، فصنعوا مفتاحاً غريباً، حصاناً من خشب. وأيضًا، كان مفتاح مغارة علي بابا الضخم عبارة عن ثلاث كلمات. ويذكر التاريخ أيضًا أنّ للمدن مفاتيح رمزيتها عالية، وبعض المدن سلّمت مفاتيحها بطريقة خلدها التاريخ، بدءاً بمفاتيح القدس التي استلمها الخليفة عمر بن الخطاب من حاكم القدس البطريرك، وانتهاء بمفاتيح غرناطة التي سلّمها أبو عبدالله الصغير للملك فيرناند، وشتّان بين التسليمين.

أمّا في الموروث الشعبي، فيرمز المفتاح إلى السيطرة، حيث الصناديق والغرف مفاتيحها بيد الأم أو الجدة إن وجدت، وعند موت أيّ امرأةٍ في ريف الفرات لا بدّ أن تسمع في نعيها: "مفتاح صندوقك خذنه... عفنات ما يستاهلنه" في إشارةٍ إلى أنّ الإرث الأهم هو المفتاح.

هناك مفاتيح تفتح لك طريق السرقة والنهب والاستيلاء على مال الغير

وفي الموروث الديني تعلّمنا أن لا علم لمخلوق بالغيب ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ﴾، وعرفنا أيضاً أنّ للناس تصنيفين "إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير"، وتخيّلنا غنى قارون من عدد المفاتيح التي عنده، والتي تنوء العصبة بحملها، أمّا أقدس مفتاح فهو مفتاح الكعبة المشرّفة ثم مفتاح مقام إبراهيم.

وفي تفسير الأحلام، إنّ رؤية المفتاح دلالة على فتح أبواب الرزق والمعرفة ودلالة على الفرج وانزياح الهم.

ومن المضحك أنك حين تبحث عن مفتاح بين مجموعة مفاتيح فعادة ما يكون المفتاح المطلوب هو أخر مفتاح تجربه.

إذن، إنّ المفاتيح كثيرة، هناك مفاتيح المباني والأبواب والخزائن والصناديق، مفاتيح الملاحق والأقبية والزنازين والقيود، مفاتيح القبور والصدور والسعادة... وللمفتاح سير مؤلمة أيضًا، فبعد نكبة 48 وطرد الفلسطينيين من منازلهم، ظلّوا محتفظين بمفاتيح بيوتهم على أمل العودة، وصار المفتاح عبارة عن رمزٍ معنوي لتمسّك الشعب بحق العودة لأرضه، وضاعت بعده بلاد وعباد وظلّت الإذاعات الرسميّة تحضنا على الصبر لأنّ الصبر "مفتاح" الفرج.

بدايةً، اخترع البشر المفتاح لحماية منازلهم ومتاجرهم وكلّ ما هو ثمين، بحيث لا يمكن لأيّ شخص آخر الوصول إليه، حتى صار المفتاح رمزًا للأمان والحماية، إلا أنّ المفارقة في واقعنا العربي أنّ هناك مفاتيح وظيفتها العكس، فهي تفتح لك طريق السرقة والنهب والاستيلاء على مال الغير، وهذه المفاتيح ليست معدنيّة بل بشريّة، هي مفاتيح المسؤولين والمتنفذين، ويتدرّج مفتاح المسؤول، فربّما يكون سائقه أو من يُحضر له الشاي والقهوة، أو حارس البناية التي يتسلّل إليها خلسةً في الليالي المعتمة... وهؤلاء مفاتيح السرقات البسيطة، كتعيين موظّف أو استثناء لفتح بقالة، ثم تتدرّج مرتبة المفاتيح ويتدرج معها حجم الفساد حتى نصل إلى قمّة الهرم، حيث قد تكون زوجة المسؤول هي المفتاح الأهم، مفتاح الصفقات الكبيرة، ولا يعلو عليها ويبزّها إلا مفتاح العشيقة أو الزعيم الأعلى، فهذا المفتاح إن وجد، يفتح كلّ باب موصود حتى إنّه يفتح أبواب البلد للغرباء.

دلالات
كاتب سوري
جاسم الحمود
مهندس معماري وكاتب قِصّة من سورية، حاصل على عدّة جوائز في كتابة القِصّة.