ملف| السوبر ماركت كساحة قتال (30)
"صباح الخير، ممكن اسأل شو بديل النسكافيه؟". تسأل نور على حساب "واتساب" الذي افتتحته "حركة مقاطعة داعمي إسرائيل في لبنان". وبعد أربع دقائق تماماً، تجيب إيمان: "صباح النور، باريستا". ثم تردف إجابتها الوافية والمختصرة بصورة للمنتج البديل الذي تقترحه بدلاً من المنتج الداعم للكيان الصهيوني، مراعاةً لمن لا يفهم الكتابة باللغة الأجنبية.
منذ أسابيع أتابع هذه المجموعة النشطة من المتطوّعين عبر "واتساب". كنت أعلم بوجودها منذ أسّسها الكاتب المبكّر برحيله سماح سهيل إدريس، ناشر دار الآداب المرموقة، والمناضل من أجل فلسطين. لكني لم أكن أشارك في نشاطاتهم محلياً، كوني أصلاً مقاطعة منذ زمن طويل لبعض السلع التي تنتجها شركات معروفة بدعمها إسرائيل.
ما لم أكن أعرفه هو أنّ المجموعة ليست فرعاً من حركة المقاطعة العالمية (BDS). فهذه الأخيرة، كما يوضح موقع الحملة المحلية، ترتكز معاييرها في المقاطعة على القانون الدولي. بمعنى أنها تعترف بإسرائيل كدولة في حدود عام 1967، فتقاطع منتوجات المستوطنات غير القانونية مثلاً استناداً إلى قرارات الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي.
أمّا مجموعتنا المحلية، والتي تأسّست عام 2002 إثر مجازر العدو في جنين، فلا تعترف بالكيان الإسرائيلي بالأصل. وهي أكثر راديكالية من الحركة العالمية، وإن كانت تنسق معها.
هكذا، تقرأ أسفل "دليل المقاطعة" الذي تقوم المجموعة المتطوّعة بتحديثه دورياً، العبارة التالية "نشتق معاييرنا من حقنا في فلسطين من النهر إلى البحر دولة حرة سيدة ومستقلة".
لكن هذه الراديكالية التي تلائم هواي في القضية الفلسطينية تحديداً، توازيها مرونة في التطبيق قد تعبّر عنها عبارة "من استطاع إلى المقاطعة سبيلاً". بمعنى إن توفر بديل للسلعة المراد مقاطعتها لدعمها للكيان، كان به، وإن لم يتوفر وكان المنتج ضرورياً فلا بأس بشرائه. وهنا يصبح بند الضرورة نسبياً بالطبع، حسب اجتهاد المستهلك والتزامه.
"والله ما بعرف إذا لازم نقاطعه ولا نشتريه" تبدو السيدة الأربعينية التي كانت تقف أمام رف العناية الشخصية في السوبر ماركت، كما لو كانت تحدّث نفسها بصوت خفيض، وهي تقلّب عبوة الشامبو بين يديها، متفحّصة ما كُتب عليها، لكنها في الحقيقة كانت تستدرجني لمشاركتها حيرتها، لعل وعسى.
أسعدني سؤالها فابتسمت لها مشجّعة، وقلت لها: "هاتي لأرى؟". تفحصت مكان الإنتاج والشركة الأم وأجبتها أنّه داعم لإسرائيل، ولذلك عليها أن تختار غيره. طلبت مساعدتي في اختيار بديل ففعلت، ونصحتها بمنتج محلّي عاد للظهور منذ سنتين، أي بعد انفجار الأزمة الاقتصادية على خلفية تدهور العملة اللبنانية أمام الدولار. ثم نصحتها بالانضمام لمجموعة المقاطعة على "واتساب"، وزوّدتها بالرقم. فابتسمت بسعادة كما لو أنّي أعطيتها هدية.
تحوّلت السوبر ماركت ببركات "طوفان الأقصى" إلى ساحة قتال مدني، وإن بتفاوت، خاصة في البلدان المتقاعسة إلى حد التطبيع مع كيان العدو
ما يثلج القلب هو أنّ هذه الحالة ليست منفردة. فمنذ أسابيع، تشهد صفحة المقاطعة وعنوانها على "واتساب" إقبالاً متزايداً من أشخاص لم يكونوا في وارد المقاطعة لأسباب عدّة، أبرزها الجهد الذي يجب أن يبذل في أحيان كثيرة لإيجاد الصلة مع اقتصاد العدو، خصوصاً بعد عولمة غالبية الشركات العابرة للحدود. والأهم إيجاد البديل في ظلّ تضاؤل المنتجات المحلية لمصلحة المستوردة بعد تراجع الإنتاج المحلي إلى حدّ التلاشي تقريباً.
هكذا، وعلى وقع استمرار العدوان الهمجي والإبادة العرقية التي تمارسها إسرائيل في قطاع غزّة والضفة الغربية، تتزايد بشكل لافت أعداد الأشخاص الذين ينضمون إلى تيار المقاطعة بدافع الرغبة في التصرّف بأيّ شكل تعويضاً عن تخاذل الحكومات. ويمكنك في بيروت مثلاً أن ترى بعض المستهلكين يمضون وقتاً أطول في تفحّص البضائع لفرز الداعم للكيان ومقاطعته، عن السلع البريئة سياسياً بهذا المعنى.
والملفت في هذ التطوّر ما لاحظه مهتمون بالاستهلاك، من استفادة واضحة لبعض الشركات المحلية من هذه المقاطعة، حيث عادت لتحتل رفوف السوبر ماركت بعد أن كانت قد اندثرت تقريباً بسبب منافسة المستورد.
هذا السلاح الأمضى حتى من الحرب، كان قد أثبت فعاليته عالمياً. لكن نتائجه، وإن كانت ممتازة، يعيبها أنّ نتائجها بطيئة بالنسبة إلى سرعة تدهور أوضاع الفلسطينيين. كما أنّه غالباً ظرفي عاطفي، ما إن يخبو الغضب حتى يعود المستهلك إلى عاداته القديمة، ولو بتفاوت.
فقطع شريان الحياة عن اقتصاد هذا الأخير ليس بهذه السهولة. خصوصاً أنّ "وحدات الدم"، في حال إصابة الكيان بنزيف خطر، متوفّرة من أميركا أولاً، وحتى من "متبرعين" عرب، إن كانت صفة العروبة كانتماء إلى مصلحة الأمة تصدق فيهم أصلاً.
لم لا يكون هناك وجه آخر للمقاطعة الاقتصادية؟ من نوع مكافأة الشركات التي تتراجع عن الدعم بالترويج لها؟
وكما في بيروت، كذلك في القاهرة والأردن، تحوّلت السوبر ماركت ببركات "طوفان الأقصى" إلى ساحة قتال مدني، وإن بتفاوت، خاصة في البلدان المتقاعسة إلى حدّ التطبيع مع كيان العدو. فنقرأ مثلاً عن مصر أنّ "الطوفان الفلسطيني أفاض برداً وسلاماً على الصناعة الوطنية بمصر، فبدأ المنتج المحلي يستعيد ثقة المستهلكين، ممن رفعوا شعارات "قاطع" و"شجع منتج بلدك". أمّا في الكويت فقد تميّزت حملة "هل قتلت اليوم فلسطينياً؟" بفعاليتها وسرعة تجاوب الكويتيين معها.
لا بل إنّ الشركات المتضرّرة من المقاطعة، بدأ بعضها بإيلاء هذه الحركة التي تتسبّب لها بالأضرار أهمية متزايدة، خاصة بعد اضطرارها إلى سحب استثماراتها في الكيان، في حين يسارع البعض الآخر للتأكيد أنّه غير داعم. أمّا التطوّر المضحك في حديث المقاطعة، فهو ما أعلنت عنه مبادرة "أوقفوا معاداة السامية" منذ أيام حين دشنت حملة "مقاطعة مضادة" بعنوان "قف لا تتسوق"، من كلّ من تتهمهم "بدعم حماس ومعاداة السامية".
وبغضّ النظر عن "استعارة المستعمر أداة تحرّر شعبية" كما سخرت حركة المقاطعة اللبنانية، فإنّ ما ثبتت الحاجة إليه وبسرعة هو اختراع "تطبيق" من الممكن استخدامه على الهواتف الذكية، لتلبية السرعة التي يتطلبها سؤال مستهلك ما في أيّ مكان في العالم عن منتج ما.
إلا أنّ ما يعترض إيجاد مثل هذا التطبيق هو التمويل، خصوصاً أنّ تحديثه بما يتعلّق بتغييرات تطاول مواقف الشركات على مدار الساعة بحاجة إلى فريق عمل مؤهل، وبدوام كامل، إضافة إلى مركز إحصاء ودراسة للسوق.
وبالانتظار، لم لا يكون هناك وجه آخر للمقاطعة الاقتصادية؟ من نوع مكافأة الشركات التي تتراجع عن الدعم بالترويج لها؟ إنّها سياسة الثواب والعقاب، وهي برأيي فعالة كلّما انضم إليها عدد أكبر من المستهلكين اليائسين، مثلنا، من عالم بلا أخلاق، لا يتألم إلّا عندما تضغط على عصبه الأهم، أي المال.