ملف: العنصرية آفة أوطاننا (12)
عندما نتحدث عن العنصرية فأوّل ما يتبادر إلى الذهن هو التفكير في مجتمعات السود والبيض والمسلمين وغير المسلمين داخل الدول الغربية، ولكن لماذا نبحث عن العنصرية خارج حدود أوطاننا، وهي في الحقيقة متواجدة داخل كلّ بيت وأسرة ومجتمع ودولة؟ فالعنصرية هي التفريق بين الإنسان حسب النوع والجنس واللون والدين والوطن والغني والفقير، وكأننا نسينا قول الله تعالى "يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٍۢ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ".
أحياناً، نسمّي العنصرية مسمّيات مختلفة تكون مريحة للقلب ومقبولة للنفس بدلاً من هذه الكلمة التي توحي بالوحشية مع ممارسة الفعل، وفي مواقف أخرى نسمّيها سياسات دولة أو عرف قبيلة أو مجتمع...
تبدأ العنصرية من داخل الأسرة بالتفريق بين الابن والبنت، وهذا له نماذج وصور عديدة، بدءاً من الاهتمام بالابن على حساب البنت، أو التفريق بينهما في الرعاية والحنان، أو في التعليم، وقد تجد الأم تفرّق بين ابنتها وزوجة ابنها في المعاملة، ثمّ أخيراً يأتي حرمان الفتاة من الميراث، وهذا من العنصرية التي تواجهها الأسر العربية داخل مجتمعاتنا.
تستمر المعاناة بعد دخول المدارس، فنجد العنصرية في ممارسات الدولة التي تُولي اهتماماً كبيراً بالمدارس المتواجدة بالمدن، نتيجة وجود طبقة غنية ومستوى عالٍ من المعيشة قياساً بالمدارس المتواجدة بالقرى والنجوع. وحتى داخل المدن، نجد فرقاً متفاوتاً في المعاملة والاهتمام بين منطقة وأخرى، فنجد داخل الفصل الواحد ما يزيد عن 50 طالباً بلا جودة في التعليم ولا صحة، ولا إمكانيات تُذكر.
قد تتسبّب العنصرية بفرط النشاط والشعور بالعزلة الاجتماعية، وقد تؤدي إلى العدوان على الآخرين كردّ فعل على التميّز
وعند التخرج تستمر المعاناة والعنصرية، إذ نجد أنّ خريجي الجامعات الكبرى لديهم فرص أكبر من جامعات المحافظات والولايات، رغم امتلاكهم لمهارات وإمكانيات تجعلهم مؤهلين لنيل الوظيفة. كما تستمر المعاناة وتجد صاحب المحسوبية والواسطة مفضّلا على من لا واسطة له، ويظهر الأمر أيضاً في الترقّي في الوظائف الحكومية، فتجد تعيين الأقارب وترقيتهم، ويكون للمحسوبية والواسطة أثر كبير في الترقّي لأعلى المناصب.
تستمر المعاناة للأفراد، ونجد السياسات والعمليات العنصرية متأصلة بعمق في المؤسسات داخل المجتمع؛ كالمستشفيات، والمدارس، والدوائر الحكومية، فنجد الأشخاص من ذوي الجاه يأخذون حقوقَ من هم أقل منهم. فعلى سبيل المثال لا الحصر، ينتظر المريض في المستشفيات الحكومية لشهور عدّة حتى يأتي دوره في إجراء عملية أو فحص بعينه، مع أنّ غيره، ونتيجة لمعارفه، لا يتأخر أكثر من أسبوع، وهكذا تضيع الطبقة الفقيرة والمعدومة ولا توجد سياسة عادلة ولا قانون يحميها.
وإذا أردنا أن ندخل في عمق المجتمع، فنجد العنصرية تجاه أقليات بعينها، سواء بإعطائهم أكثر من حقهم أو الحدّ من حقوقهم. وبالرغم من أنّ الجميع له نفس الحقوق والواجبات، يُحرم ابن العامل والفلاح البسيط من دخول كليات بعينها أو الالتحاق بالسلك الدبلوماسي أو القضاء أو مؤسسات الدولة المختلفة بالقانون، أو نتيجة فرض شروط مجحفة لتعجيزه عن الدخول، ونتيجة لهذا الفعل ينمو داخل الأفراد شعور غريب قد يتسبّب بتحوّلهم إلى عنصريين مستقبلاً.
أما إذا أردنا أن نتحدث عن العنصرية داخل الدولة، فحدث ولا حرج، عن التفاوت في الأجور بين العاملين ذوي المؤهلات والمسؤوليات المتساوية، وتفضيل العاملين بالجيش والشرطة والقضاء والإعلام على غيرهم من الموظفين، وفرض سياسات جائرة لإقراض روّاد الأعمال الصغار مقابل التسهيلات للكبار، وتقديم تسهيلات في مجال الاستثمار للمستثمر الأجنبي على أبناء البلد، وتعيين الأبناء بالتبعية داخل جهاز الدولة...إلخ.
العنصرية وحش كاسر يضرب النفس البشرية فيمزقها من الداخل، ويجعل لها أثراً مدمراً على النفس والصحة، ويؤدي إلى انعدام الثقة بالنفس والشعور بالاختلاف عن الآخرين، وقد تتسبّب العنصرية بفرط النشاط والشعور بالعزلة الاجتماعية، وقد تؤدي إلى العدوان على الآخرين كردّ فعل على التميّز، بما يؤدي إلى انخفاض مستوى الفرد وتدنيه اجتماعياً.
إذا أردنا أن تختفي العنصرية من مجتمعاتنا ودولنا، فليكن العدل الذي لا يفرّق بين صغير وكبير، وأبيض وأسود، وغني وفقير
العنصرية لها آثار مدمرة على المجتمع أيضاً، حيث تؤدي إلى تفكّك روابط وأواصر المجتمع، سواء بين الأفراد أو الجماعات، أو في ارتفاع نسَب العنف والجريمة بجميع أنواعها، وأحيانا تؤدي إلى النزاع المسلح الذي يؤدي إلى تزعزع أمن المجتمع واستقراره، وقلة ثقة الأفراد بالمؤسسات الحكومية، وفقدان التنوّع الثقافي داخل المجتمع، وأخيراً انعدام الاستقرار السياسي والاجتماعي داخل الدولة، نتيجة زيادة معدلات التخلف والفقر والجهل والتهميش والتفاوت في المعيشة.
أما آثار العنصرية على الدولة اقتصادياً، فتؤدي إلى زيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء، واضمحلال الطبقة الوسطى التي هي أمان المجتمعات، وبالتالي تأثيرها على الناتج المحلي الإجمالي، نتيجة انخفاض الإنتاجية، وزيادة معدلات البطالة، وزيادة نسبة الصراع داخل المجتمع، وهروب الاستثمار.
أخيراً، إذا أردنا أن تختفي العنصرية من مجتمعاتنا ودولنا، فليكن العدل الذي لا يفرّق بين صغير وكبير، وأبيض وأسود، وغني وفقير، وولد وبنت، ومسلم وغيره... وليكن هو الميزان الذي يحتكم إليه الجميع، ويكون الفصل والحكم في القول والفعل والسياسات والقوانين والإجراءات، وليكن العدل أساس الحكم داخل الأسرة، أو المجتمع، أو الدولة، فتنعم البشرية جمعاء، وتنهض المجتمعات وتتقدّم الأمم.