ملف: حيلة الشَّرعنة لارتكاب جرائم الشّرف (21)
تعيش المرأة في المجتمعات الأبوية علاقة تسلّط عنفي، تكون فيها الطّرف الرّاضخ والتّابع، والذي يقف في أسفل الهرم ليقدّم التّبجيل والطّاعة للرّجل السّيد الجالس في أعلى الهرم، الذي يمتلك القوة والسّلطة.
ومن البديهي القول إنّ هذه العلاقة غير متكافئة، لأنّها تكتنز في أحد طرفيها القهر والكبت والتّبعية، بينما تفيض في الطّرف الآخر بالتّحكّم والتّعنيف والنّرجسية. علاقة تُعطي للرّجل حق قتل المرأة بدافع الشّرف، وذبحها إن تمرّدت بمفهومه وقالت "لا"، وتجريمها إن ظهرت خصلة من شعرها أو لاحَ كاحلها أو كتفها.
نسمع يوميًا عن نساء يُقتلن دون وجود قانون يحمي هؤلاء النّساء، أو يُطمئن باقي النّساء بأنّهنّ في مأمن لو أردن الدّفاع عن أنفسهنّ، والسّؤال الذي يطرح نفسه: من وضع هذه التّشريعات التي بموجبها يتم تَشييء المرأة واختزالها إلى جسد، للرّجل كامل الوصاية عليه؟
أراد الرّجال ابتكار مزيد من السُّلطة، فنَسجوا أساطير حول رجال خارقين في صفاتهم، وحمّلوهم من المعجزات ما يستلزم لإثارة الخشوع في قلوب بسطاء يستسهلون العبودية، وينسجمون مع الوجود القطيعي. وقالوا فيها إنّ اللّه لا يتصف بذكورة أو أنوثة، لكن علينا مخاطبته بضمير المذكر لأنّ الرّجال هم أسياد الأرض، وأعلى درجة من النّساء التّابعات النّاقصات دينًا وعقلًا، ومَهمة المرأة الوحيدة المحافظة على شرف الرّجال، هذا الشّرف الذي اختاروا له موقعاً هامًا وحساسًا جدًا: "بين فَخذَي المرأة". وواجب المرأة المحافظة على جوهر الوجود هذا، حتى يأتي رجل شجاع ذو عقل راجح كعقل دابة لا تفكر سوى بالمرعى والجنس، فتُقدّم له هذه الجوهرة الثّمينة، وتقدّم معها الولاء والانصياع والتّبعية والعبودية، وكلّ هذا في سبيل أن تبقى (حسب زعمهم) شريفة مؤمنة تستحق الجنة الموعودة.
ووصلت بعض هذه الأساطير إلى حالة متطرفة ادّعت فيها أنّ المرأة أقل من الدّابة، فهي خُلِقت فقط لخدمة الرّجل وإشباع رغبته الجنسية، ولا وجود لجنة تستقبل النّساء، فالنّساء جميعهنَّ إلى النّار.
تستخدم الشّرعنة "جرائم الشّرف" لإيهام المرأة بأنّها عار على نفسها وعلى العائلة، ليدفعوها بذلك للانتحار أو ليقوموا هم في أغلب الأحيان بقتلها
وبعد مضي آلاف السّنين على العهد القديم، والعهد الجديد، والرّسالة المحمدية، والتي فشلت جميعها في حماية المرأة، ما زالت عشرات النّساء يُقتَلن يوميًا باسم الدّين تحت ذريعة الشّرف وغسل العار، وما زالت هناك نساء إلى يومنا هذا يُسبين، وما زالت هناك نساء يُعنّفن لفظيًا وجسديًا من عائلاتهن وأزواجهن، وما زالت هناك من يتعرّضن للتحرّش اللفظي والجسدي في الشّارع والحَي والرّيف البعيد والقريب والجامعة وأماكن العمل، وما زالت هناك نساء يُغتصَبن ليليًا على فراش الزّوجية الوحشي دون أن يمتلكنَ جرأة القول: "نحنُ نتعرّض للاغتصاب".
والسّؤال: كيف تمّت شرعنة قتل المرأة، وإخضاعها وتشييؤها؟
"الشّرعنة" هي جعل الأمر مشروعًا، وشرعنة "جريمة الشّرف" تعني تبرير الانتهاك ومنح هذا الانتهاك الشّرعية، فارتكابها سيُعيد الأمور إلى الحالة السّليمة الطّبيعية التي كانت سائدة قبل إقدام الضّحية على فِعل ما يُسيء لشرف حدّدته قوانينهم الوضعية.
وتستخدم الشّرعنة "جرائم الشّرف" لإيهام المرأة بأنّها عار على نفسها وعلى العائلة، ليدفعوها بذلك للانتحار أو ليقوموا هم في أغلب الأحيان بقتلها، وتقوم الشّرعنة بتغطية جريمة المُعتدي وتحميل المسؤولية كاملة للضّحية، مع تبرير وتمهيد مسبق لجريمة القتل.
والسّؤال: كيف يتم التّمهيد لجريمة القتل؟
يتم التّجهيز لجريمة القتل شيئًا فشيئًا، حيث يتمّ إخلاء المسؤولية عن الشّخص المعتدي، وتثبيت الذّنب على المرأة، بخلق ما يُعرَف بـ"الاتجاه الإنصافي"، والذي يعني أنّ الوضع يحتاج إلى انتقام للشّرف ليتحقّق الإنصاف، وذلك بإنهاء حياة الضّحية (المرأة)، فإنهاء حياتها سيُسبّب عودة الأمور إلى طبيعتها، ليُصبح الوضع آمنًا وسليمًا كسابق عهده. ويبدأ التّمهيد من خلال عمليات تمجيد وحقن في لحظة واحدة، إذ يُشاع أنّ القاتل بطل سيغسل شرف العائلة ويحفظ كرامة دينه، مقابل تحقير ثابت للضّحية أنّها أساءت للأخلاق ولوّثت الدّين وخانت الشّرف، لذلك هي لا ترتقي لاعتبارها إنسانة بل شبه إنسانة، بل شيء، بل لا شيء، لذلك تستحق "الشَّخِت ع البلوعة"، وهناك ضرورة قصوى للخلاص منها، فقد غدَت عقبة وجودية في حياة المجتمع الأبوي، لأنّها ارتكبت فعلاً مُنافياً للأخلاق (وفق قوانينه طبعا)، سرقت به حق هذا الرّجل الشّريف بالسّعادة والطّمأنينة، لذلك فإنّ العنف التّدميري والقتل ضرورة مبرّرة لا بدّ منها لإعادة الأمور إلى مجراها.
على هذا النّحو تُرتكَب جرائم قتل النّساء التي سمّوها "جرائم الشّرف" باستخدام حيلة "الشّرعنة"، ناهيك بأنّهم قد يقومون باغتصابها قبل قتلها على مبدأ "القريب أحق بالمتعة"، وأحيانًا تتمّ مضاعفة جريمة الاغتصاب إلى حُكم الاغتصاب المؤبد من خلال تزويجها للمُغتصِب، بحجة السّترة!